في الكلام حذف تقديره : فرجع المرسل إليها بالهدية ، وأخبرها بما أقسم عليه سليمان ، فتجهزت للمسير إليه ، إذ علمت [ ص: 76 ] أنه نبي ولا طاقة لها بقتال نبي . فروي أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات ، بعضها في جوف بعض ، في آخر قصر من قصورها ، وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه ، وتوجهت إلى سليمان في أفيالها وأتباعهم .
قال : فلما كانت على فرسخ من عبد الله بن شداد سليمان ، قال : ( أيكم يأتيني بعرشها ) ؟ وقال : كان ابن عباس سليمان مهيبا ، لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه . فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال : ما هذا ؟ فقالوا : بلقيس ، فقال ذلك . واختلفوا في قصد سليمان استدعاء عرشها . فقال قتادة ، : لما وصف له عظم عرشها وجودته ، أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام ويمنع أخذ أموالهم ، والإسلام على هذا الدين ، وهذا فيه بعد أن يقع ذلك من نبي أوتي ملكا لم يؤته غيره . وقال وابن جريج ، ابن عباس وابن زيد : استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله ، وليغرب عليها سليمان والإسلام على هذا الاستسلام . وأشار لقول ، فقال : ولعله أوحي إليه - عليه السلام - باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه به من إجراء العجائب على يده ، مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة الزمخشري سليمان ويصدقها . انتهى . وقال : أراد أن يختبر صدق الهدهد في قوله : ( الطبري ولها عرش عظيم . ) وهذا فيه بعد ، لأنه قد ظهر صدقه في حمل الكتاب ، وما ترتب على حمله من مشورة بلقيس قومها وبعثها بالهدية . وقيل : أراد أن يؤتى به ، فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره ، اختبارا لعقلها . والظاهر ترتيب هذه الأخبار على حسب ما وقعت في الوجود ، وهو قول الجمهور . وعن أنه قال : ( ابن عباس أيكم يأتيني بعرشها ) ؟ حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال : ( ولها عرش عظيم ) . ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير ، وفي قوله : ( أيكم يأتيني بعرشها ) دليل على جواز ، ودليل على أنه قد يخص بعض أتباع الأنبياء بشيء لا يكون لغيرهم ، ودليل على مبادرة من طلب منه الملوك قضاء حاجة ، الاستعانة ببعض الأتباع في مقاصد الملوك . وقرأ الجمهور : عفريت ، وبداءة الشياطين في التسخير على الإنس ، وقدرتهم بأقدار الله على ما يبعد فعله من الإنس وأبو حيوة : بفتح العين . وقرأ أبو رجاء ، وأبو السماك ، وعيسى ، ورويت عن : عفرية ، بكسر العين ، وسكون الفاء ، وكسر الراء ، بعدها ياء مفتوحة ، بعدها تاء التأنيث . وقال أبي بكر الصديق : ذو الرمة
كأنه كوكب في إثر عفرية مصوب في سواد الليل مقتضب
وقرأت فرقة : عفر ، بلا ياء ولا تاء ، ويقال في لغة طيـئ وتميم : عفراة بالألف وتاء التأنيث ، وفيه لغة سادسة عفارية ، ويوصف بها الرجل ، ولما كان قد يوصف به الإنس خص بقوله من الجن . وعن : اسمه صخر . وقيل : كورى . وقيل : ذكران . و ( ابن عباس آتيك ) يحتمل أن يكون مضارعا واسم فاعل . وقال قتادة ، ومجاهد ، ووهب : ( من مقامك ) أي من مجلس الحكم ، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم . وقيل : قبل أن تستوي من جلوسك قائما . ( وإني عليه ) أي على الإتيان به " لقوي " على حمله ؛ " أمين " : لا أختلس منه شيئا . قال الحسن : كان كافرا ، لكنه كان مسخرا ، والعفريت لا يكون إلا كافرا .
( قال الذي عنده علم من الكتاب ) قيل : هو من الملائكة ، وهو جبريل ، قاله النخعي . والكتاب : اللوح المحفوظ ، أو كتاب سليمان إلى بلقيس . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : هو رجل من الإنس ، واسمه آصف بن برخيا ، كاتب سليمان ، وكان صديقا عالما قاله الجمهور . أو أسطوام ، أو هود ، أو مليخا ، قاله قتادة . أو أسطورس ، أو الخضر - عليه السلام - قاله . وقالت جماعة : هو ابن لهيعة ضبة بن أد جد بني ضبة ، من العرب ، وكان فاضلا يخدم سليمان ، كان على قطعة من خيله ، وهذه أقوال مضطربة ، وقد أبهم الله اسمه ، فكان ينبغي أن لا يذكر اسمه حتى يخبر به نبي . ومن أغرب الأقوال أنه سليمان - عليه السلام - كأنه يقول [ ص: 77 ] لنفسه : ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) أو يكون خاطب بذلك العفريت ، حكى هذا القول وغيره ، كأنه استبطأ ما قال العفريت ، فقال له الزمخشري سليمان ذلك على تحقير العفريت . والكتاب : هو المنزل من عند الله ، أو اللوح المحفوظ ، قولان . والعلم الذي أوتيه ، قيل : اسم الله الأعظم وهو : يا حي يا قيوم . وقيل : يا ذا الجلال والإكرام . وقيل بالعبرانية : أهيا شراهيا . وقال الحسن : الله ثم الرحمن . والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة ، وأنه أقصر في المدة من مدة العفريت ، ولذلك روي أن سليمان قال : أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت ، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال البصر ، كما قال الشاعر :
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
وصف برد الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد . فالمعنى أنك ترسل طرفك ، فقبل أن ترده أتيتك به ، وصار بين يديك . فروي أن آصف قال لسليمان - عليه السلام - : مد عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمد طرفه فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف فغاب العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله ، قبل أن يرد طرفه . وقال ابن جبير ، وقتادة : قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى . وقال مجاهد : قبل أن تحتاج إلى التغميض ، أي مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض ، وذلك ارتداده . قال ابن عطية : وهذان القولان يقابلان قول من قال : إن القيام هو من مجلس الحكم ، ومن قال : إن القيام هو من الجلوس ، فيقول في ارتداد الطرف هو أن تطرف ، أي قبل أن تغمض عينيك وتفتحهما ، وذلك أن الثاني يعطي الأقصر في المدة ولا بد . انتهى . وقيل : طرفك مطروفك ، أي قبل أن يرجع إليك من تنظر إليه من منتهى بصرك ، وهذا هو قول ابن جبير وقتادة المتقدم ، لأن من يقع طرفك عليه هو مطروفك . وقال الماوردي : قبل أن ينقبض إليك طرفك بالموت ، فخبره أنه سيأتيه قبل موته ، وهذا تأويل بعيد ، بل المعنى آتيك به سريعا . وقيل : ارتداد الطرف مجاز هنا ، وهو من باب مجاز التمثيل ، والمراد استقصار مدة الإتيان به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردة طرف ، وفي طرفة عين ، تريد به السرعة ، أي آتيك به في مدة أسرع من مدة العفريت .
( فلما رآه مستقرا ) عنده : في الكلام حذف تقديره : فدعا الله فأتاه به ، فلما رآه : أي عرش بلقيس . قيل : نزل على سليمان من الهواء . وقيل : نبع من الأرض . وقيل : من تحت عرش سليمان . وانتصب " مستقرا " على الحال ، و " عنده " معمول له . والظرف إذا وقع في موضع الحال ، كان العامل فيه واجب الحذف . فقال ابن عطية : وظهر العامل في الظرف من قوله : ( مستقرا ) وهذا هو المقدر أبدا في كل ظرف وقع في موضع الحال . وقال أبو البقاء : ومستقرا ، أي ثابتا غير متقلقل ، وليس بمعنى الحضور المطلق ، إذ لو كان كذلك لم يذكر . انتهى . فأخذ في مستقرا أمرا زائدا على الاستقرار المطلق ، وهو كونه غير متقلقل ، حتى يكون مدلوله غير مدلول العندية ، وهو توجيه حسن لذكر العامل في الظرف الواقع حالا ؛ وقد قدر ذكر العامل في ما وقع خبرا من الجار والمجرور التام في قول الشاعر :
لك العز إن مولاك عز وإن يهن فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
( قال هذا من فضل ربي ) أي هذا الإتيان بعرشها ، وتحصيل ما أردت من ذلك ، هو من فضل ربي علي وإحسانه ، ثم علل ذلك بقوله : ( ليبلوني أأشكر أم أكفر ) . قال : المعنى أأشكر على السرير وسوقه أم أكفر ؟ إذ رأيت من هو دوني في الدنيا أعلم مني . انتهى . وتلقي ابن عباس سليمان النعمة وفضل الله بالشكر ، إذ ذاك نعمة متجددة ، والشكر قيد للنعم . و " أأشكر أم أكفر " في موضع نصب " ليبلوني " ، وهو [ ص: 78 ] معلق ، لأنه في معنى التمييز ، والتمييز في معنى العلم ، وكثير التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم ، وإن لم يكن مرادفا له ؛ لأن مدلوله الحقيقي هو الاختبار . ( ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ) أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه ؛ إذ كان قد صان نفسه عن كفران النعمة ، وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه . ( ومن كفر ) أي فضل الله ونعمته عليه ، فإن ربي غني عن شكره ، لا يعود منفعتها إلى الله ؛ لأنه هو الغني المطلق الكريم بالإنعام على من كفر نعمته . والظاهر أن قوله : ( فإن ربي غني كريم ) هو جواب الشرط ، ولذلك أضمر فاء في قوله : ( غني ) أي عن شكره . ويجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه ، أي ومن كفر فلنفسه ، أي ذلك الكفر عائد عقابه إليه . ويجوز أن تكون " ما " موصولة ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط .
( قال نكروا لها عرشها ) . روي أن الجن أحست من سليمان ، أو ظنت به أنه ربما تزوج بلقيس ، فكرهوا ذلك ورموها عنده بأنها غير عاقلة ولا مميزة ، وأن رجلها كحافر دابة ، فجرب عقلها وميزها بتنكير العرش ، ورجلها بالصرح ؛ لتكشف عن ساقيها عنده . وتنكير عرشها ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : بأن زيد فيه ونقص منه . وقيل : بنزع ما عليه من الفصوص والجواهر . وقيل : بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره . والتنكير : جعله متنكرا متغيرا عن شكله وهيئته ، كما يتنكر الرجل للناس حتى لا يعرفوه . وقرأ الجمهور : " ننظر " : بالجزم على جواب الأمر . وقرأ أبو حيوة : بالرفع على الاستئناف . أمر بالتنكير ، ثم استأنف الإخبار عن نفسه بأنه ينظر ، ومتعلق " أتهتدي " محذوف . والظاهر أنه أتهتدي لمعرفة عرشها ولا يجعل تنكيره قادحا في معرفتها له فيظهر بذلك فرط عقلها وأنها لم يخف عليه حال عرشها وإن كانوا قد راموا الإخفاء ، أو أتهتدي للجواب المصيب إذا سئلت عنه ، أو أتهتدي للإيمان بنبوة سليمان - عليه السلام - إذا رأت هذا المعجز من نقل عرشها من المكان الذي تركته فيه وغلقت الأبواب عليه وجعلت له حراسا .
" فلما جاءت " : في الكلام حذف ، أي فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذا سئلت عنه . فلما جاءت قيل أهكذا عرشك : أي مثل هذا العرش الذي أنت رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ؟ ولم يأت التركيب : أهذا عرشك ؟ جاء بأداة التشبيه ، لئلا يكون ذلك تلقينا لها . ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه ، وتميزت فيه أشياء من عرشها ، لم تجزم بأنه هو ، ولا نفته النفي البالغ ، بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت : " كأنه هو " ، وذلك من جودة ذهنها ؛ حيث لم تجزم في الصورة المحتملة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه ، وقابلت تشبيههم بتشبيهها . والظاهر أن قوله : وأوتينا العلم إلى قوله : من قوم كافرين ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلا بكلامها . فقيل : من كلام سليمان . وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه . فإن كان من قول سليمان فقيل : العلم هنا مخصوص ، أي وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة . من قبلها أي من قبل مجيئها . وكنا مسلمين : موحدين خاضعين . وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف تقديره كأنه هو ، وقال سليمان عند ذلك : " وأوتينا العلم من قبلها " . الآية ، قال ذلك على جهة تعديد نعم الله تعالى ، وإنما قال ذلك بما علمت هي وفهمت ، ذكر هو نعمة الله عليه وعلى آبائه . انتهى ملخصا . وقال : " وأوتينا العلم " من كلام الزمخشري سليمان وملئه ( فإن قلت ) : علام عطف هذا الكلام وبما اتصل ؟ ( قلت ) : لما كان المقام الذي سئلت فيه عن عرشها - وأجابت بما أجابت به - مقاما أجرى فيه سليمان وملأه ما يناسب قولهم : وأوتينا العلم ، نحو أن يقولوا عند قولها : كأنه هو ، قد أصابت في جوابها ، فطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت عند وفدة المنذر . وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها عطفوا على ذلك قولهم : [ ص: 79 ] وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل نحن على دين الإسلام ، شكروا الله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها ، وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة . ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولا بقولها كأنه هو ، والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة ، يعني ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام . ثم قال الله - تعالى - وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار واتصال الفعل . انتهى . أما قوله : ويجوز أن يكون من كلام بلقيس ، فهو قول قد تقدم إليه على سبيل التعيين لا الجواز . قيل : والمعنى وأوتينا العلم بصحة نبوته بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة ، يعني إحضار العرش . وكنا مسلمين مطيعين لأمرك منقادين لك . والظاهر أن الفاعل بصدها هو قوله : " ما كانت تعبد " ، وكونه الله أو سليمان ، و " ما " مفعول صدها على إسقاط حرف الجر ، قاله ، وهو ضعيف لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ، نحو قوله : تمـرون الديـار ولـم تعوجوا : أي عن الديار ، وليس من مواضع حذف حرف الجر . وإذا كان الفاعل هو ما كانت بالمصدود عنه ، الظاهر أنه الإسلام . وقال الطبري الرماني : التقدير التفطن للعرش ؛ لأن المؤمن يقظ والكافر خبيث . والظاهر أن قوله : " وصدها " معطوف على قوله : " وأوتينا " ، إذا كان من كلام سليمان ، وإن كان يحتمل ابتداء إخبار من الله - تعالى - لمحمد نبيه ولأمته . وإن كان " وأوتينا " من كلام بلقيس ، فالظاهر أنه يتعين كونه من قول الله تعالى وقول من قال إنه متصل بقوله : أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون . والواو في " وصدها " للحال ، وقد مضمرة مرغوب عنه لطول الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة . وقرأ الجمهور : " إنها " بكسر الهمزة ، ، وسعيد بن جبير : بفتحها ، فإما على تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلا من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد . قال وابن أبي عبلة وغيره : لما وصلت محمد بن كعب القرظي بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا ، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنيا كالصهريج وملئ ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي . فلما وصلته بلقيس ، قيل لها : ادخلي إلى النبي - عليه السلام - فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقيها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن . فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان : إنه صرح ممرد من قوارير ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم . وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس . قال : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحققا لنبوته وثباتا على الدين . انتهى . والصرح : كل بناء عال ، ومنه : " ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب " ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ . وقال الزمخشري مجاهد : الصرح هنا : البركة . وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها . وقيل : الصرح هنا : القصر من الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالا للأمر . واللجة : الماء الكثير . وكشف ساقيها عادة من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصودا . وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الإخريط وهب بن واضح عن " سأقيها " بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة [ ص: 80 ] مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة . حكى قنبل أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة ، وأنشد :
أحب المؤقديـن إلي موسى
والظاهر أن الفاعل يقال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح . وظلمها نفسها ، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها . وقال ابن عطية : ومع ، ظرف بني على الفتح ، وأما إذا أسكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى . انتهى ، والصحيح أنها ظرف ، فتحت العين أو سكنت ، وليس التسكين مخصوصا بالشعر ، كما زعم بعضهم ، بل ذلك لغة لبعض العرب ، والظرفية فيها مجاز ، وإنما هو اسم يدل على معنى الصحبة .