[ ص: 109 ] ( المدينة ) ، قال : هي ابن عباس منف . ركب فرعون يوما وسار إليها ، فعلم موسى - عليه السلام - بركوبه ، فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة ، وعنه بين العشاء والعتمة . وقال : المدينة ابن إسحاق مصر بنفسها ، وكان موسى قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون ، فاختفى وخاف ، فدخلها متنكرا حذرا متغفلا للناس . وقال ابن زيد : كان فرعون قد أخرجه من المدينة ، فغاب عنها سنين ، فنسي ، فجاء والناس في غفلة بنسيانهم له وبعد عهدهم به . وقيل : كان يوم عيد ، وهم مشغولون بلهوهم . وقيل : خرج من قصر فرعون ودخل مصر . وقيل : المدينة عين شمس . وقيل : قرية على فرسخين من مصر يقال لها حابين . وقيل : الإسكندرية . وقرأ أبو طالب القارئ : ( على حين ) بنصب نون حين ، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل ، كأنه قال : على حين غفل أهلها ، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض ، كقوله :
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وهذا توجيه شذوذ . وقرأ نعيم بن ميسرة : يقتلان . بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف . قيل : كانا يقتتلان في الدين ، إذ أحدهما إسرائيلي مؤمن والآخر قبطي . وقيل : يقتتلان ، في أن كلف القبطي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون على ظهر الإسرائيلي ، و " يقتتلان " صفة لـ " رجلين " . وقال ابن عطية : يقتتلان في موضع الحال . انتهى . والحال من النكرة أجازه من غير شرط . ( سيبويه هذا من شيعته ) أي ممن شايعه على دينه ، وهو الإسرائيلي . قيل : وهو السامري ، وهذا من عدوه ، أي من القبط . وقيل : اسمه فاتون ، وهذا حكاية حال ، وقد كانا حاضرين حالة وجدان موسى لهما ، أو لحكاية الحال ، عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر . وقال : العرب تشير بهذا إلى الغائب . قال المبرد جرير :
هذا ابن عمي في دمشق خليفة لو شئت ساقكم إلي قطينا
وقرأ الجمهور : ( فاستغاثه ) أي طلب غوثه ونصره على القبطي . وقرأ ، سيبويه وابن مقسم ، والزعفراني : بالعين المهملة والنون بدل الثاء ، أي طلب منه الإعانة على القبطي . قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة : والاختيار قراءة ابن مقسم ؛ لأن الإعانة أولى في هذا الباب . وقال ابن عطية : ذكرها الأخفش ، وهي تصحيف لا قراءة . انتهى . وليست تصحيفا ، فقد نقلها ابن خالويه عن ، سيبويه وابن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني . وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، يعني الحطب ، فاشتد غضب موسى ، وكان قد أوتي قوة ( فوكزه ) فمات . وقرأ عبد الله " فلكزه " ، باللام ، وعنه : " فنكزه " ، بالنون . قال قتادة : وكزه بعصاه ؛ وغيره قال : بجمع كفه ، والظاهر أن فاعل ( فقضى ) ضمير عائد على موسى . وقيل : يعود على الله ، أي فقضى الله عليه بالموت . ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه ، أي فقضى الوكز عليه ، وكان موسى لم يتعمد قتله ، ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم موسى . وروي أنه دفنه في الرمل وقال : ( هذا من عمل الشيطان ) وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي ، وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه ؛ لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله . وعن : ابن جريج . وقال ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر كعب : كان موسى إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، وكان قتله خطأ ، فإن الوكزة في الغالب لا تقتل . وقال النقاش : كان هذا قبل النبوة ، وقد انتهج موسى - عليه السلام - نهج آدم - عليه السلام - إذ قال : ( ظلمنا أنفسنا ) . والباء في ( بما أنعمت ) للقسم ، والتقدير : أقسم بما أنعمت به علي من المغفرة ، والجواب محذوف ، أي لأتوبن ( فلن أكون ) أو متعلقة بمحذوف تقديره : اعصمني بحق ما أنعمت علي من [ ص: 110 ] المغفرة ( فلن أكون ) إن عصمتني ( ظهيرا للمجرمين ) . وقيل : ( فلن أكون ) دعاء لا خبر ، ولن بمعنى لا في الدعاء ، والصحيح أن لن لا تكون في الدعاء ، وقد استدل على أن لن تكون في الدعاء بهذه الآية ، وبقول الشاعر :
لن تزالوا كذاكم ثم ما زل ت لهم خالدا خلود الجبال
والمظاهرة ، إما بصحبته لفرعون وانتظامه في جملته وتكثير سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون ، وإما أنه أدت المظاهرة إلى القتل الذي جرى على يده . وقيل : بما أنعمت علي من النبوة ، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ، ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا . واحتج أهل العلم بهذه الآية على ، نص على ذلك منع معونة أهل الظلم وخدمتهم وغيره . وقال رجل عطاء بن أبي رباح لعطاء : إن أخي يضرب بعلمه ولا يعدو رزقه ، قال : فمن الرأس ، يعني من يكتب له ؟ قال : ، قال : فأين قول خالد بن عبد الله القسري موسى ؟ وتلا الآية : ( فأصبح في المدينة خائفا ) من قتل القبطي أن يؤخذ به ، يترقب وقوع المكروه به أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه ؟ قيل : خائفا من أنه يترقب المغفرة . وقيل : خائفا يترقب نصرة ربه ، أو يترقب هداية قومه ، أو ينتظر أن يسلمه قومه . ( فإذا الذي استنصره بالأمس ) أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه . وإذا هنا للمفاجأة ، وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ ، وهو معرب ، فحركة سينه حركة إعراب ؛ لأنه دخلته أل ، بخلاف حاله إذا عري منها ، فالحجاز تبنيه إذا كان معرفة ، وتميم تمنعه الصرف حالة الرفع فقط ، ومنهم من يمنعه الصرف مطلقا ، وقد يبنى مع أل على سبيل الندور . قال الشاعر :
وإني حسبت اليوم والأمس قبله إلى الليل حتى كادت الشمس تغرب
( يستصرخه ) يصيح به مستغيثا من قبطي آخر ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الطنابيب
قال له موسى : الظاهر أن الضمير في " له " عائد على الذي ( إنك لغوي مبين ) لكونك كنت سببا في قتل القبطي بالأمس ، قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب . وقيل : الضمير في له ، والخطاب للقبطي ، ودل عليه قوله : يستصرخه ، ولم يفهم الإسرائيلي أن الخطاب للقبطي . ( فلما أن أراد أن يبطش ) الظاهر أن الضمير في أراد ويبطش هو لموسى . ( بالذي هو عدو لهما ) أي للمستصرخ وموسى وهو القبطي يوهم الإسرائيلي أن قوله : ( إنك لغوي مبين ) هو على سبيل إرادة السوء به ، وظن أنه يسطو عليه . قال - أي الإسرائيلي - : ( يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) دفعا لما ظنه من سطو موسى عليه ، وكان تعيين القاتل القبطي قد خفي على الناس ، فانتشر في المدينة أن قاتل القبطي هو موسى ، ونمى ذلك إلى فرعون ، فأمر بقتل موسى . وقيل : الضمير في " أراد " و " يبطش " للإسرائيلي عند ذلك من موسى ، وخاطبه بما يقبح ، وأن بعد " لما " يطرد زيادتها . وقيل : لو إذا سبق قسم كقوله :
فأقسم أن لو التقينا وأنتم لكان لكم يوم من الشر مظلم
وقرأ الجمهور : " يبطش " ، بكسر الطاء ؛ والحسن ، وأبو جعفر : بضمها . ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ) وشأن الجبار أن يقتل بغير حق . وقال : من قتل رجلين فهو جبار ، يعني بغير حق ، ولما أثبت له الجبروتية نفى عنه الصلاح . ( الشعبي وجاء رجل من أقصى المدينة ) قيل : هو مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون . قال الكلبي : واسمه جبريل بن شمعون . وقال الضحاك : شمعون بن إسحاق . وقيل : هو غير مؤمن آل فرعون . ( يسعى ) يشتد في مشيه . ولما أمر فرعون بقتله ، خرج الجلاوزة [ ص: 111 ] من الشارع الأعظم ، لطلبه فسلك هذا الرجل طريقا أقرب إلى موسى . و " من أقصى المدينة " ، و " يسعى " : صفتان ، ويجوز أن يكون يسعى حالا ، ويجوز أن يتعلق من أقصى بـ " جاء " . قال : وإذا جعل ، يعني ، من أقصى حالا ، لـ " جاء " لم يجز في " يسعى " إلا الوصف . انتهى . يعني : أن رجلا يكون نكرة لم توصف ، فلا يجوز منها الحال ، وقد أجاز ذلك الزمخشري في كتابه من غير وصف . قال : ( سيبويه إن الملأ ) وهم وجوه أهل دولة فرعون ( يأتمرون ) يتشاورون ، قال الشاعر ، وهو النمر بن تولب :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة وفي كل حادثة يؤتمر
وقال ابن قتيبة : يأمر بعضهم بعضا بقوله ، من قوله تعالى : ( وائتمروا بينكم بمعروف ) . ( فاخرج إني لك من الناصحين ) . ولك : متعلق إما بمحذوف ، أي ناصح لك من الناصحين ، أو بمحذوف على جهة البيان ، أي لك أعني ، أو بالناصحين ، وإن كان في صلة أل ، لأنه يتسامح في الظرف والمجرور ما لا يتسامح في غيرهما . وهي ثلاثة أقوال للنحويين فيما أشبه هذا ، فامتثل موسى ما أمره به ذلك الرجل ، وعلم صدقه ونصحه ، وخرج وقد أفلت طالبيه فلم يجدوه . وكان موسى لا يعرف ذلك الطريق ، ولم يصحب أحدا ، فسلك مجهلا ، واثقا بالله تعالى ، داعيا راغبا إلى ربه في تنجيته من الظالمين .