[ ص: 112 ] ( توجه ) رد وجهه . و ( تلقاء ) تقدم الكلام عليه في يونس ، أي ناحية وجهه . استعمل المصدر استعمال الظرف ، وكان هناك ثلاث طرق ، فأخذ موسى أوسطها ، وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا : المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها . فبقي في الطريق ثماني ليال [ ص: 113 ] وهو حاف ، لا يطعم إلا ورق الشجر . والظاهر من قوله : ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) أنه كان لا يعرف الطريق ، فسأل ربه أن يهديه أقصد الطريق بحيث أنه لا يضل ، إذ لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه . وعن : قصد ابن عباس مدين وأخذ يمشي من غير معرفة ، فأوصله الله إلى مدين . وقيل : هداه جبريل إلى مدين . وقيل : ملك غيره . وقيل : أخذ طريقا يأمن فيه ، فاتفق ذهابه إلى مدين . والظاهر أن " سواء السبيل " : وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه . وقال مجاهد : " سواء السبيل " : طريق مدين . وقال الحسن : هو سبيل الهدى ، فمشى موسى - عليه السلام - إلى أن وصل إلى مدين ، ولم يكن في طاعة فرعون .
( ولما ورد ماء مدين ) أي وصل إليه ، والورود بمعنى الوصول إلى الشيء ، وبمعنى الدخول فيه . قيل : وكان هذا الماء بئرا . والأمة : الجمع الكثير ، ومعنى عليه : أي على شفيره وحاشيته . ( يسقون ) يعني مواشيهم . ( ووجد من دونهم ) أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة ، فهما من دونهم بالإضافة إليه ، قاله ابن عطية . وقال : في مكان أسفل من مكانهم . ( الزمخشري تذودان ) قال وغيره : تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء . وقال ابن عباس قتادة : تذودان الناس عن غنمهما . قال : وكأنهما تكرهان المزاحمة على الماء . وقيل : لئلا تختلط غنمهما بأغنامهم . وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما . وقال الزجاج الفراء : تحبسانها عن أن تتفرق ، واسم الصغرى عبرا ، واسم الكبرى صبورا .
ولما رآهما موسى - عليه السلام - واقفتين لا تتقدمان للسقي ، سألهما فقال : ( ما خطبكما ) ؟ قال ابن عطية : والسؤال بالخطب إنما هو في مصاب ، أو مضطهد ، أو من يشفق عليه ، أو يأتي بمنكر من الأمر . قال : وحقيقته : ما مخطوبكما ؟ أي ما مطلوبكما من الذياد ؟ سمي المخطوب خطبا ، كما سمي الشئون شأنا في قولك : ما شأنك ؟ يقال : شأنت شأنه ، أي قصدت قصده . انتهى . وفي سؤاله - عليه الصلاة والسلام - دليل على جواز الزمخشري فيما يعن ولم يكن لأبيهما أجير ، فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء ، ولم تكن لهما قوة الاستقاء ، وكان الرعاة يستقون من البئر فيسقون مواشيهم ، فإذا صدروا ، فإن بقي في الحوض شيء سقتا . فوافى مكالمة الأجنبية موسى - عليه السلام - ذلك اليوم وهما يمنعان غنمهما عن الماء ، فرق عليهما وقال : ( ما خطبكما ) ؟ وقرأ شمر : بكسر الخاء ، أي من زوجكما ؟ ولم لا يسقي هو ؟ وهذه قراءة شاذة نادرة .
( قالتا لا نسقي ) . وقرأ ابن مصرف : لا نسقي ، بضم النون . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، وقتادة ، والعربيان : يصدر ، بفتح الياء وضم الدال ، أي يصدرون بأغنامهم ؛ وباقي السبعة ، ، والأعرج وطلحة ، ، والأعمش وابن أبي إسحاق ، وعيسى : بضم الياء وكسر الدال ، أي يصدرون أغنامهم . وقرأ الجمهور : " الرعاء " ، بكسر الراء : جمع تكسير . قال : وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام . انتهى . وليس بقياس ؛ لأنه جمع راع ، وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة ، كقاض وقضاة ، وما سوى جمعه هذا فليس بقياس . وقرئ : الرعاء ، بضم الراء ، وهو اسم جمع ، كالرجال والثناء . قال الزمخشري أبو الفضل الرازي : وقرأ عياش ، عن أبي عمرو : الرعاء ، بفتح الراء ، وهو مصدر أقيم مقام الصفة ، فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه ، وقد يجوز أنه حذف منه المضاف . ( وأبونا شيخ كبير ) اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما ، وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره ، واستعطاف لموسى في إعانتهما .
( فسقى لهما ) أي سقى غنمهما لأجلهما . وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا عدد من الرجال ، واضطرب النقل في العدد ، فأقل ما قالوا سبعة ، وأكثره مائة ، فأقله وحده . وقيل : كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون ، فنزع بها وحده . وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقى لهما ، كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع ، حتى كانت تظهر الخضرة في [ ص: 114 ] بطنه من البقل . وقيل : إنه مشى حتى سقط أصله ، وهو باطن القدم ، ومع ذلك أغاثهما وكفاهما أمر السقي . وقد طابق جوابهما لسؤاله . سألهما عن سبب الذود ، فأجاباه : بأنا امرأتان ضعيفتان مستورتان ، لا نقدر على مزاحمة الرجال ، فنؤخر السقي إلى فراغهم . ومباشرتهما ذلك ليس بمحظور ، وعادة العرب وأهل البدو في ذلك غير عادة أهل الحضر والأعاجم ، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة . ( ثم تولى إلى الظل ) قال : ظل شجرة . قيل : كانت سمرة . وقيل : إلى ظل جدار لا سقف له . وقيل : جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس . ( ابن مسعود فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) قال المفسرون : تعرض لما يطعمه ، لما ناله من الجوع ، ولم يصرح بالسؤال ؛ و " أنزلت " هنا بمعنى تنزل . وقال : وعدي باللام . " فقير " لأنه ضمن معنى سائل وطالب . ويحتمل أن يريد ، أي فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين ، وهو النجاة من الظالمين ؛ لأنه كان عند الزمخشري فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضا بالبدل السني وفرحا به وشكرا له . وقال الحسن : سأل الزيادة في العلم والحكمة .
( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ) في الكلام حذف ، والتقدير : فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي ، وقصتا عليه أمر الذي سقى لهما ، فأمر إحداهما أن تدعوه له . ( فجاءته إحداهما ) . قرأ ابن محيصن : فجاءته احداهما ، بحذف الهمزة ، تخفيفا على غير قياس ، مثل : ويل امه في ويل أمه ، ويابا فلان ، والقياس أن يجعل بين بين ، و " إحداهما " مبهم . فقيل : الكبرى ، وقيل : كانتا توأمتين ، ولدت الأولى قبل الأخرى بنصف نهار . وعلى استحياء : في موضع الحال ، أي مستحيية متحفزة . قال : قد سترت وجهها بكم درعها ؛ والجمهور : على أن الداعي أباهما هو عمر بن الخطاب شعيب - عليه السلام - وهما ابنتاه . وقال الحسن : هو ابن أخي شعيب ، واسمه مروان . وقال أبو عبيدة : هارون . وقيل : هو رجل صالح ليس من شعيب بنسب . وقيل : كان عمهما صاحب الغنم ، وهو المزوج ، عبرت عنه بالأب ، إذ كان بمثابته . ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) في ذلك ما كان عليه شعيب من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملا ، وإن لم يقصد العامل المكافأة .
( فلما جاءه ) أي فذهب معهما إلى أبيهما ، وفي هذا دليل على ، إذ ذهب معها اعتماد أخبار المرأة موسى ، كما يعتمد على أخبارها في باب الرواية . ( وقص عليه القصص ) أي ما جرى له من خروجه من مصر ، وسبب ذلك . ( قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) أي قبل الله دعاءك في قولك : ( رب نجني من القوم الظالمين ) أو أخبره بنجاته منهم ، فأنسه بقوله : ( لا تخف ) وقرب إليه طعاما ، فقال له موسى : إنا أهل بيت ، لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا ، فقال له شعيب : ليس هذا عوض السقي ، ولكن عادتي وعادة آبائي ؛ فحينئذ أكل قرى الضيف وإطعام الطعام موسى - عليه السلام - .
( قالت إحداهما ) أبهم القائلة ، وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة ( يا أبت استأجره ) أي لرعي الغنم وسقيها . ووصفته بالقوة : لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده ، وانتزع بتلك الدلو ، وزاحمهم حتى غلبهم على الماء ؛ وبالأمانة ؛ لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها ، فقال : ارجعي خلفي ودليني على الطريق . وقولها كلام حكيم جامع ؛ لأنه إذا اجتمعت الكفاية والأمانة في القائم بأمر ، فقد تم المقصود ، وهو كلام جرى مجرى المثل ، وصار مطروقا للناس ، وكان ذلك تعليلا للاستئجار ، وكأنها قالت : استأجره لأمانته وقوته ، وصار الوصفان منبهين عليه . ونظير هذا التركيب قول الشاعر :
ألا إن خير الناس حيا وهالكا أسير ثقيف عندهم في السلاسل
جعل " خير من استأجرت " الاسم ، اعتناء به . وحكمت عليه بالقوة والأمانة . ولما وصفته بهذين الوصفين قال لها أبوها : ومن أين عرفت هذا ؟ فذكرت إقلاله الحجر وحده ، وتحرجه من النظر إليها حين وصفتها [ ص: 115 ] الريح ؛ وقاله ، ابن عباس وقتادة ، وابن زيد ، وغيرهم . وقيل : قال لها موسى ابتداء : كوني ورائي ، فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا . وقال : أفرس الناس ثلاثة : بنت ابن مسعود شعيب وصاحب يوسف في قوله : ( عسى أن ينفعنا ) وأبو بكر في عمر . وفي قولها : ( استأجره ) دليل على عندهم ، وكذا كانت في كل ملة ، وهي ضرورة الناس ومصلحة الخلطة ، خلافا مشروعية الإجارة لابن علية والأصم ، حيث كانا لا يجيزانها ؛ وهذا مما انعقد عليه الإجماع ، وخلافهما خرق .
( قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) رغب شعيب في مصاهرته ، لما وصفته به ، ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله وفراره من الكفرة . وقرأ ، ورش وأحمد بن موسى ، عن أبي عمرو : " أنكحك احدى " ، بحذف الهمزة . وظاهر قوله : ( أن أنكحك ) أن ، خلافا الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأة فيه لأبي حنيفة في بعض صوره ، بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها ، فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود ، وفيه دليل على ، وقد فعل ذلك عرض الولي وليته على الزوج عمر ، ودليل على تزويج ابنته البكر من غير استئمار ، وبه قال مالك . وقال والشافعي أبو حنيفة : إذا بلغت البكر ، فلا تزوج إلا برضاها . قيل : وفيه دليل على قول من قال : لا ينعقد إلا بلفظ التزويج ، أو الإنكاح ، وبه قال ربيعة ، ، والشافعي ، وأبو ثور وأبو عبيد ، وداود . و " إحدى ابنتي " : مبهم ، وهذا عرض لا عقد . ألا ترى إلى قوله : ( إني أريد ) ؟ وحين العقد يعين من شاء منهما ، وكذلك لم يحد أول أمد الإجارة . والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة ، وبه قال وأصحابه الشافعي وابن حبيب . وقال : ( الزمخشري هاتين ) فيه دليل على أنه كانت له غيرهما . انتهى . ولا دليل في ذلك ؛ لأنهما كانتا هما اللتين رآهما تذودان ، وجاءته إحداهما ، فأشار إليهما ، والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما . ( على أن تأجرني ) في موضع الحال من ضمير " أنكحك " ، إما الفاعل ، وإما المفعول . و " تأجرني " ، من أجرته : كنت له أجيرا ، كقولك : أبوته : كنت له أبا ، ومفعول " تأجرني " الثاني محذوف تقديره نفسك . و ( ثماني حجج ) ظرف ، وقاله أبو البقاء . وقال : حجج : مفعول به ، ومعناه : رعيه ثماني حجج . ( الزمخشري فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي هو تبرع وتفضل لا اشتراط . ( وما أريد أن أشق عليك ) بإلزام أي الأجلين ، ولا في المعاشرة والمناقشة في مراعاة الأوقات ، وتكليف الرعاة أشياء من الخدم خارجة عن الشرط . ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) وعد صادق مقرون بالمشيئة " من الصالحين " في حسن المعاملة ووطاءة الخلق ، أو " من الصالحين " على العموم ، فيدخل تحته حسن المعاملة .
ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى ، قال موسى : ( ذلك بيني وبينك ) على جهة التقدير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثماني حجج . و " ذلك " مبتدأ خبره " بيني وبينك " ، إشارة إلى ما عاهده عليه ، أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني قائم بيننا جميعا لا نخرج عنه ، ثم قال : ( أيما الأجلين ) أي الثماني أو العشر ؟ ( فلا عدوان علي ) أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة ، و " أي " شرط ، وما زائدة . وقرأ الحسن ، والعباس ، عن أبي عمرو : أيما ، بحذف الياء الثانية ، كما قال الشاعر :
تنظرت نصرا والسماكين أيما علي من الغيث استهلت مواطره
وقرأ عبد الله : أي الأجلين ما قضيت ، بزيادة ما بين الأجلين وقضيت . قال : ( فإن قلت ) : ما الفرق بين موقع ما المزيدة في القراءتين ؟ ( قلت ) : وقعت في المستفيضة مؤكدة الإبهام ، أي زائدة في شياعها ، وفي الشاذ تأكيدا للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له ؟ وقرأ الزمخشري أبو حيوة ، وابن قطيب : " فلا عدوان " ، بكسر العين . قال : قد علم أنه لا عدوان عليه في أتمهما ، ولكن جمعهما ، ليجعل الأول كالأتم في الوفاء . وقال المبرد : تصور العدوان إنما هو في [ ص: 116 ] أحد الأجلين الذي هو أقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا ؟ ( قلت ) : معناه : كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر ، كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت في الزيادة على الثماني . أراد بذلك تقرير الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء ، إما هذا ، وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء . وأما التتمة فموكولة إلى رأيي ، إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها . وقيل : معناه فلا أكون متعديا ، وهو في نفي العدوان عن نفسه ، كقولك : لا إثم علي ولا تبعة . انتهى ، وجوابه الأول فيه تكثير . ( الزمخشري والله على ما نقول ) أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا ( وكيل ) أي شاهد . وقال قتادة : حفيظ . وقال ابن شجرة : رقيب ، ، فلما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى . والوكيل الذي وكل إليه الأمر
( فلما قضى موسى الأجل ) جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وفى أطول الأجلين ، وهو العشر . وعن مجاهد : وفى عشرا أو عشرا بعدها ، وهذا ضعيف . ( وسار بأهله ) أي نحو مصر بلده وبلد قومه . والخلاف فيمن تزوج ، الكبرى أم الصغرى ، وكذلك في اسمها . وتقدم كيفية مسيره ، وإيناسه النار في سورة طه وغيرها . وقرأ الجمهور : " جذوة " بكسر الجيم ؛ ، والأعمش وطلحة ، وأبو حيوة ، وحمزة : بضمها ؛ وعاصم غير الجعفي : بفتحها . ( لعلكم تصطلون ) أي تتسخنون بها ، إذ كانت ليلة باردة ، وقد أضلوا الطريق .