[ ص: 128 ] لما ذكر أن الممتعين في الدنيا يحضرون إلى النار ، ذكر شيئا من أحوال يوم القيامة ، أي واذكر حالهم يوم يناديهم الله ، ونداؤه إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وبغير واسطة ( فيقول أين شركائي ) ؟ أي على زعمكم ، وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع ، والشركاء هم من عبدوه من دون الله ، من ملك ، أو جن ، أو إنس ، أو كوكب ، أو صنم ، أو غير ذلك . ومفعولا ( تزعمون ) محذوفان ، أحدهما العائد على الموصول ، والتقدير : تزعمونهم شركاء . ولما كان هذا السؤال مسكتا لهم ، إذ تلك الشركاء التي عبدوها مفقودون هم أوجدوا هم في الآخرة حادوا عن الجواب إلى كلام لا يجدي .
( قال الذين حق عليهم القول ) أي الشياطين ، وأئمة الكفر ورءوسه . و " حق " : أي وجب عليهم القول ، أي مقتضاه ، وهو قوله : ( لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . و ( هؤلاء ) مبتدأ ، و ( الذين أغوينا ) هم صفة ، و ( أغويناهم كما غوينا ) الخبر ، و ( كما غوينا ) صفة لمطاوع أغويناهم ، أي فغووا كما غوينا ، أي تسببنا لهم في الغي فقبلوا منا . وهذا الإعراب قاله . وقال الزمخشري أبو علي : ولا يجوز هذا الوجه ؛ لأنه ليس في الخبر زيادة على ما في صفة المبتدإ . قال : ( فإن قلت ) : قد وصلت بقوله : ( كما غوينا ) وفيه زيادة . قيل : الزيادة بالظرف لا تصيره أصلا في الجملة ؛ لأن الظروف صلات ، وقال هو : ( الذين أغوينا ) هو الخبر ، و ( أغويناهم ) مستأنف . وقال غير أبي علي : لا يمتنع الوجه الأول ؛ لأن الفضلات في بعض المواضع تلزم ، كقولك : زيد عمرو قائم في داره . انتهى . والمعنى : هؤلاء أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان ، كما آثرناه نحن ، ونحن كنا السبب في كفرهم ، فقبلوا منا . وقرأ أبان ، عن عاصم وبعض الشاميين : " كما غوينا " بكسر الواو . قال ابن خالويه : وليس ذلك مختارا ؛ لأن كلام العرب : غويت من الضلالة ، وغويت من البشم . ثم قالوا : ( تبرأنا إليك ) منهم ما كانوا يعبدوننا ، إنما عبدوا غيرنا ، و ( إيانا ) مفعول ( يعبدون ) لما تقدم انفصل ، وانفصاله لكون " يعبدون " فاصلة ، ولو اتصل ثم لم يكن فاصلة . وقال : إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ؛ وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرونتين لمعنى الجملة الأولى . انتهى . الزمخشري
( وقيل ادعوا شركاءكم ) لما سئلوا أين شركاؤكم وأجابوا بغير جواب ، سئلوا ثانيا فقيل : ادعوا شركاءكم ، وأضاف الشركاء إليهم ، أي الذين جعلتموهم شركاء لله . وقوله : ( ادعوا شركاءكم ) على سبيل التهكم بهم ؛ لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم ( فدعوهم ) هذا لسخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضا ؛ إذ لم يعلموا أن من كان موجودا منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم ، والضمير في ( ورأوا ) . قال الضحاك ومقاتل : هو للتابع والمتبوع ، وجواب " لو " محذوف ، والظاهر أن يقدر مما يدل عليه مما يليه ، أي لو كانوا مؤمنين في الدنيا ، ما رأوا العذاب في الآخرة . وقيل : التقدير : لو كانوا مهتدين بوجه من وجوه الحيل ، لدفعوا به العذاب . وقيل : لعلموا أن العذاب حق . وقيل : لتحيروا عند رؤيته من فظاعته ، وإن لم يعذبوا به ، وقيل : ما كانوا في الدنيا عابدين الأصنام . وقال أبو عبد الله الرازي : وعندي أن الجواب غير محذوف ، وفي تقريره وجوه : أحدها : أن الله إذا خاطبهم بقوله : ( ادعوا شركاءكم ) اشتد خوفهم ولحقهم شيء بحيث لا يبصرون شيئا ، لا جرم ما رأوا العذاب . وثانيها : لما ذكر الشركاء ، وهي الأصنام ، وأنهم لا يجيبون الذين دعوهم ، قال في حقهم : ( ورأوا العذاب ) لو كانوا من الأحياء المهتدين ، ولكنها [ ص: 129 ] ليست كذلك ، ولا جرم ما رأت العذاب . والضمير في " رأوا " - وإن كان للعقلاء - فقد قال : ودعوهم وهم للعقلاء ، انتهى . وفيه بعض تلخيص . وقد أثنى على هذا الذي اختاره ، وليس بشيء ؛ لأنه بناه على أن الضمير في " رأوا " عائد على المدعوين ، قال : وهم الأصنام . والظاهر أنه عائد على الداعين ، كقوله : ( إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب ) ؛ ولأن حمل مهتدين على الأحياء في غاية البعد ؛ لأن ما قدره هو جواب ، ولا يشعر به أنه جواب ؛ إذ صار التقدير عنده : لو كانوا من الأحياء رأوا العذاب ، لكنها ليست من الأحياء ، فلا ترى العذاب . ألا ترى إلى قوله : فلا جرم ما رأت العذاب .
( ويوم يناديهم ) هذا النداء أيضا قد يكون بواسطة من الملائكة ، أو بغير واسطة . حكى أولا ما يوبخهم من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله رءوس الكفر عند توبيخهم ، ثم استعانتهم بشركائهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل . وقرأ الجمهور : ( فعميت ) بفتح العين وتخفيف الميم . وقرأ ، الأعمش وجناح بن حبيش ، : بضم العين وتشديد الميم ، والمعنى : أظلمت عليهم الأمور ، فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم ، وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه . ( وأبو زرعة بن عمرو بن جرير فهم لا يتساءلون ) وقرأ طلحة : يساءلون ، بإدغام التاء في السين : أي لا يسأل بعضهم بعضا فيما يتحاجون به ؛ إذ أيقنوا أنه لا حجة لهم ، فهم في عمى وعجز عن الجواب . والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله . ولما ذكر - تعالى - ، وما يكون منهم فيه ، أخبر بأن أحوال الكفار يوم القيامة ، فإنه مرجو له الفلاح والفوز في الآخرة ، وهذا ترغيب للكافر في الإسلام ، وضمان له للفلاح . ويقال : إن عسى من الله واجبة . من تاب من الشرك وآمن وعمل صالحا
( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول بعضهم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وقائل ذلك الوليد بن المغيرة . قال القرطبي : هذا متصل بذكر الشركاء الذين دعوهم واختاروهم للشفاعة ، أي الاختيار إلى الله - تعالى - في الشفعاء ، لا إلى المشركين . وقيل : هو جواب لليهود ؛ إذ قالوا : لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل ؛ لآمنا به ، ونص ، الزجاج وعلي بن سليمان ، والنحاس : على أن الوقف على قوله : ( ويختار ) تام ، والظاهر أن " ما " نافية ، أي ليس لهم الخيرة ، إنما هي لله تعالى ، كقوله : ( ما كان لهم الخيرة من أمرهم ) . وذهب إلى أن " ما " موصولة منصوبة بـ " يختار " ، أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس ، كما لا يختارون هم ما ليس إليهم ، ويفعلون ما لم يؤمروا به . وأنكر أن تكون " ما " نافية ، لئلا يكون المعنى : إنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى ، وهي لهم فيما يستقبل ، ولأنه لم يتقدم كلام ينفي . وروي عن الطبري معنى ما ذهب إليه ابن عباس ، وقد رد هذا القول تقدم العائد على الموصول ، وأجيب بأن التقدير : ما كان لهم فيه الخيرة ، وحذف لدلالة المعنى . قال الطبري : كما حذف من قوله : ( الزمخشري إن ذلك لمن عزم الأمور ) يعني : أن التقدير أن ذلك فيه لمن عزم الأمور . وأنشد بيت القاسم ابن معن عنترة :
أمن سمية دمع العين تذريف لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
وقرن الآية بهذا البيت . والرواية في البيت : لو أن ذا ، ولكن على ما رواه القاسم يتجه في بيت عنترة أن يكون في كان ضمير الشأن . فأما في الآية ، فقال ابن عطية : تفسير الأمر والشأن لا يكون بجملة فيها محذوف . قال ابن عطية : ويتجه عندي أن تكون ما مفعولة ، إذا قدرنا كان تامة ، أي أن الله - تعالى - يختار كل كائن ، ولا يكون شيء إلا بإذنه . وقوله : ( لهم الخيرة ) جملة مستأنفة معناها : تعديد النعمة [ ص: 130 ] عليهم في اختيار الله لهم ، لو قبلوا وفهموا . انتهى . يعني : والله أعلم خيرة الله لهم ، أي لمصلحتهم . والخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعملان بمعنى المصدر ، والجمل التي بعد هذا تقدم الكلام عليها . والحمد في الآخرة قولهم : ( الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) ( الحمد لله الذي صدقنا وعده ) ( الحمد لله رب العالمين ) والتحميد هنالك على سبيل اللذة ، لا التكليف . وفي الحديث : " يلهمون التسبيح والتقديس " . وقرأ ابن محيصن : ما تكن ، بفتح التاء وضم الكاف .
( وله الحكم ) أي القضاء بين عباده والفصل . و ( أرأيتم ) بمعنى أخبروني ، وقد يسلط على الليل ( أرأيتم ) و ( جعل ) إذ كل منهما يقتضيه ، فأعمل الثاني . وجملة " أرأيتم " الثانية هي جملة الاستفهام ، والعائد على الليل محذوف تقديره : من إله غير الله يأتيكم بضياء بعده ، ولا يلزم في باب التنازع أن يستوي المتنازعان في جهة التعدي مطلقا ، بل قد يختلف الطلب ، فيطلبه هذا على جهة الفاعلية ، وهذا على جهة المفعولية ، وهذا على جهة المفعول ، وهذا على جهة الظرف . وكذلك " أرأيتم " ثاني مفعوليه جملة استفهامية غالبا ، وثاني " جعل " إن كانت بمعنى صير لا يكون استفهاما ، وإن كانت بمعنى خلق وأوجد وانتصب ما بعد مفعولها ، كان ذلك المنتصب حالا . و ( سرمدا ) قيل : من السرمد ، فميمه زائدة ، ووزنه " فعمل " ، ولا يزاد وسطا ولا آخرا بقياس ، وإنما هي ألفاظ تحفظ مذكورة في علم التصريف . وأتى ( بضياء ) وهو نور الشمس ، ولم يجئ التركيب بنهار يتصرفون فيه ، كما جاء ( بليل تسكنون فيه ) ؛ لأن منافع الضياء متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثم قرن بالضياء . ( أفلا تسمعون ) ؟ لأن السمع يدرك ما يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل . ( أفلا تبصرون ) ؟ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ، قال . و ( من رحمته ) من هنا للسبب ، أي وبسبب رحمته إياكم ( الزمخشري جعل لكم الليل والنهار ) ثم علل جعل كل واحد منهما ، فبدأ بعلة الأول ، وهو الليل وهو : ( لتسكنوا فيه ) ثم بعلة الثاني وهو : ولتبتغوا من فضله ، ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : ( ولتبتغوا من فضله ) ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو : ( لعلكم تشكرون ) أي هذه الرحمة والنعمة . وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير ، وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها ، ومنه قول ابن جيوش :
ومقرطق يغني النديم بوجهه عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها في مقلتيه ووجنتيه وريقه
والضمير في ( فيه ) عائد على الليل ، وفي ( فضله ) يجوز أن يكون عائدا على الله ، والتقدير : من فضله ، أي من فضل الله فيه ، أي في النهار ؛ وحذف لدلالة المعنى ، ولدلالة لفظ " فيه " السابق عليه . ويحتمل أن يعود على النهار ، أي من فضل النهار ، ويكون أضافه إلى ضمير النهار على سبيل المجاز ، لما كان الفضل حاصلا فيه أضيف إليه ، كقوله : ( بل مكر الليل والنهار ) .