كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم ، فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك ، وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ، ثم نزه نفسه عن مقالتهم . و ( الله الذي خلقكم ) مبتدأ وخبر . وقال : ويجوز أن يكون ( الذي خلقكم ) صفة للمبتدأ ، والخبر : ( هل من شركائكم ) ; وقوله : ( من ذلكم ) هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ لأن معناه : من أفعاله . انتهى . والذي ذكره النحويون أن اسم الإشارة يكون رابطا إذا كان أشير به إلى المبتدأ . وأما ( ذلكم ) هنا فليس إشارة إلى المبتدأ ، لكنه شبيه بما أجازه الزمخشري الفراء من الربط بالمعنى ، وخالفه الناس ، وذلك في قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن ) قال : التقدير : يتربصن أزواجهم ، فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الذين ، فحصل به الربط ، كذلك قدر ( من ذلكم ) من أفعاله المضاف إلى الضمير العائد على المبتدأ . وقال الزمخشري أيضا : هل من شركائكم الذين اتخذتموهم أندادا له من الأصنام وغيرها من يفعل شيئا قط من تلك الأفعال ، حتى يصح ما ذهبتم إليه ؟ فاستعمل قط في غير موضعها ; لأنها ظرف للماضي ، وهنا جعلها معمولة لـ : ( يفعل ) . وقال الزمخشري أيضا : ومن الأولى والثانية ، كل واحدة مستقبلة تأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم ; ف : " من " الأولى للتبعيض ، والجار والمجرور خبر المبتدأ ; و ( من يفعل ) هو المبتدأ ، و " من " الثانية في موضع الحال من ( شيء ) ; لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال ; و " من " الثالثة زائدة لانسحاب [ ص: 176 ] الاستفهام الذي معناه النفي على الكلام ، التقدير : من يفعل شيئا من ذلكم ، أي : من تلك الأفعال . الزمخشري
وقرأ الجمهور : ( يشركون ) بياء الغيبة ; ، والأعمش وابن وثاب : بتاء الخطاب ، والظاهر مراد ظاهر البر والبحر . وقال الحسن : وظهور الفساد فيهما بارتفاع البركات ، ونزول رزايا ، وحدوث فتن ، وتقلب عدو كافر ، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر . وقال : ( ابن عباس الفساد في البر ) القطاع فتسده . وقال مجاهد : ( في البر ) بقتل أحد بني آدم لأخيه ، وفي البحر : بأخذ السفن غصبا ، وعنه أيضا : البر : البلاد البعيدة من البحر ، والبحر : السواحل والجزر التي على ضفة البحر والأنهار . وقال قتادة : البر : الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحاري والعمور ، والبحر : المدن ، جمع بحرة ، ومنه : ولقد أجمع أهل هذه البحيرة ليتوجوه ، يعني قول في سعد بن عبادة عبد الله بن أبي بن سلول ، ويؤيد هذا قراءة عكرمة . " والبحور " بالجمع ، ورويت عن ، وكان قد ظهر الفساد برا وبحرا وقت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الظلم عم الأرض ، فأظهر الله به الدين ، وأزال الفساد ، وأخمده . وقال ابن عباس النحاس : فيه قولان ، أحدهما : ظهر الجدب في البر في البوادي وقرأها " والبحر " ، أي : في مدن البحر ، مثل : ( واسأل القرية ) أي : ظهر قلة العشب ، وغلا السعر . والثاني : ظهرت المعاصي من قطع السبيل والظلم ، فهذا هو الفساد على الحقيقة ، والأول مجاز ، وقيل : إذا قل المطر قل الغوص ، وأحنق الصياد وعميت دواب البحر . وقال : إذا مطرت تفتحت الأصداف في البحر ، فما وقع فيها من السماء فهو لؤلؤ . ابن عباس
( بما كسبت أيدي الناس ) أي : بسبب معاصيهم وذنوبهم . ( ليذيقهم ) أي : أنه تعالى أفسد أسباب دنياهم ومحقهم ، ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا ، قبل أن يعاقبهم بها جميعا في الآخرة . ( لعلهم يرجعون ) عما هم فيه . وقال ابن عطية : ( بما كسبت ) جزاء ما كسبت ، ويجوز أن يتعلق الباء بـ : ( ظهر ) ، أي : بكسبهم المعاصي في البر والبحر ، وهو نفس الفساد الظاهر . وقرأ السلمي ، ، والأعرج وأبو حيوة ، وسلام ، وسهل ، وروح ، وابن حسان ، وقنبل من طريق ابن مجاهد ، وابن الصباح ، وأبو الفضل الواسطي عنه ، ومحبوب عن أبي عمرو : لنذيقهم ، بالنون ; والجمهور : بالياء ، ثم أمرهم بالمسير في الأرض ، فينظروا كيف أهلك الأمم بسبب معاصيهم وإشراكهم ، وذلك تنبيه لقريش وأمر لهم بالاعتبار بمن سلف من الأمم ، قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم . ( كان أكثرهم مشركين ) أهلكهم كلهم بسبب الشرك ، وقوما بسبب المعاصي ; لأنه تعالى يهلك بالمعاصي ، كما يهلك بالشرك ، كأصحاب السبت . أو أهلكهم كلهم ، المشرك والمؤمن ، كقوله تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) وأهلكهم كلهم ، وهم كفار ، فأكثرهم مشركون ، وبعضهم معطل . وحين ذكر امتنانه قال : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ) فذكر الوجود ثم البقاء بسبب الرزق . وحين ذكر خذلانهم بالطغيان ، بسبب البقاء بإظهار الفساد ، ثم بسبب الوجود بالإهلاك . ( من قبل أن يأتي يوم ) يوم القيامة ، وفيه تحذير يعم الناس ( لا مرد له من الله ) المرد : مصدر رد ، و ( من الله ) : يحتمل أن يتعلق بـ : " يأتي " ، أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد حتى لا يأتي ; لقوله : ( فلا يستطيعون ردها ) ويحتمل أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ( مرد ) ، أي : لا يرده هو بعد أن يجيء به ، ولا رد له من جهته . ( يومئذ ) أي : يوم إذ يأتي ذلك اليوم . ( يصدعون ) يتفرقون ، فريق في الجنة ، وفريق في السعير . يقال : تصدع القوم إذا تفرقوا ، ومنه الصداع ; لأنه يفرق شعب الرأس ، وقال الشاعر :
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
ثم ذكر حالتي المتفرقين : ( من كفر فعليه كفره ) أي : جزاء كفره ، وعبر عن حالة الكافر بـ : عليه ، وهي تدل [ ص: 177 ] على الفعل والمشقة ، وعن حال المؤمن بقوله : ( فلأنفسهم ) باللام التي هي لام الملك . و ( يمهدون ) يوطئون ، وهي استعارة من الفرش ، وعبارة عن كونهم يفعلون في الدنيا ما يلقون به ما تقر به أعينهم وتسر به أنفسهم في الجنة . وقال مجاهد : هو التمهيد للقبر . وقال : وتقديم الظرف في الموضعين لدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعداه ، ومنفعة الأيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه . انتهى . وهو على طريقته في دعواه أن تقديم المفعول وما جرى مجراه يدل على الاختصاص ، وأما على مذهبنا فيدل على الاهتمام ، وأما ما يدعيه من الاختصاص فمفهوم من آي كثيرة في القرآن منها : ( الزمخشري ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) . واللام في ( ليجزي ) قال : متعلق بـ : ( يمهدون ) ، تعليل له وتكرير ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وترك الضمير إلى الصريح لتقديره أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله : ( الزمخشري إنه لا يحب الكافرين ) تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس . وقال ابن عطية : ( ليجزي ) متعلق بـ : ( يصدعون ) ، ويجوز أن تكون متعلقة بمحذوف تقديره ذلك ليجزي ، وتكون الإشارة إلى ما تقرر من قوله تعالى : ( من كفر ) ( ومن عمل صالحا ) . انتهى . ويكون قسيم ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) على هذين التقديرين اللذين ذكرهما ابن عطية محذوفا تقديره : كأنه قال : والكافرون بعد له ، ودل على حذف هذا القسيم قوله : ( إنه لا يحب الكافرين ) . ومعنى نفي الحب هنا : أنه لا تظهر عليهم أمارات رحمته ، ولا يرضى الكفر لهم دينا . وقال : ( من فضله ) بما تفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب ، وهذا يشبه الكناية ; لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو أراد من عطائه ، وهو ثوابه ; لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب . الزمخشري