[ ص: 216 ] ذكرهم الله تعالى بنعمته عليهم في ، وما اتصل بها من أمر غزوة الخندق بني قريظة ، وقد استوفى ذلك أهل السير ، ونذكر من ذلك ما له تعلق بالآيات التي نفسرها .
و " إذ " معمولة لـ : ( نعمة ) ، أي : إنعامه عليكم وقت مجيء الجنود ، والجنود كانوا عشرة آلاف ، قريش ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان ، وبنو أسد يقودهم طليحة ، وغطفان يقودهم عيينة ، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل ، وسليم يقودهم أبو الأعور ، واليهود النضير رؤساؤهم حيي بن أخطب وابنا أبي الحقيق ، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد ، وكان بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد ، فنبذه بسعي حيي بن أخطب . وقيل : فاجتمعوا خمسة عشر ألفا ، وهم الأحزاب ، ونزلوا المدينة ، فحفروا الخندق بإشارة سلمان ، وظهرت للرسول - صلى الله عليه وسلم - به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق ، ظهرت مع كل فرقة برقة ، أراه الله منها مدائن وما حولها ، ومدائن كسرى قيصر وما حولها ، ومدائن الحبشة وما حولها ; وبشر بفتح ذلك ، وأقام الذراري والنساء بالآطام ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ثلاثة آلاف ، فنزلوا بظهر سلع ، والخندق بينهم وبين المشركين ، وكان ذلك في شوال ، سنة خمس ، قاله . وقال ابن إسحاق مالك : سنة أربع .
وقرأ الحسن : وجنودا ، بفتح الجيم ; والجمهور : بالضم . بعث الله الصبا لنصرة نبيه ، فأضرت بهم ; هدمت بيوتهم ، وأطفأت نيرانهم ، وقطعت حبالهم ، وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها قرار . وبعث الله مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلها . وقرأ أبو عمرو في رواية ، وأبو بكرة في رواية : " لم يروها " ، بياء الغيبة ; وباقي السبعة ، والجمهور : بتاء الخطاب . ( من فوقكم ) من أعلى الوادي من قبل مشرق غطفان ( ومن أسفل منكم ) من أسفل الوادي من قبل المغرب ، وقريش تحزبوا وقالوا : نكون جملة حتى نستأصل محمدا . وقال مجاهد : ( من فوقكم ) يريد أهل نجد مع عيينة بن حصن ، و ( من أسفل منكم ) يريد مكة وسائر تهامة ، وهو قول قريب من الأول . وقيل : إنما يراد ما يختص ببقعة المدينة ، أي : نزلت طائفة في أعلى المدينة ، وطائفة في أسفلها ، وهذا قريب من القول الأول ، وقد يكون ذلك على معنى المبالغة ، أي : جاءوكم من جميع الجهات ، كأنه قيل : إذ جاءوكم محيطين بكم ، كقوله : ( يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) المعنى : يغشاهم محيطا بجميع أبدانهم . وزيغ الأبصار : ميلها عن مستوى نظرها ، فعل الواله الجزع . وقال الفراء : زاغت من كل شيء ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها . وبلوغ القلب الحناجر : مبالغة في اضطرابها ووجيبها ، دون أن تنتقل من مقرها إلى الحنجرة . وقيل : بحت القلوب من شدة الفزع ، فيتصل وجيبها بالحنجرة ، فكأنها بلغتها . وقيل : يجد خشونة وقلبه يصعد علوا لينفصل ، فالبلوغ ليس حقيقة . وقيل : القلب عند الغضب يندفع ، وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة . وقيل : يفضي إلى أن يسد مخرج النفس ، فلا يقدر المرء أن يتنفس ، ويموت خوفا ، ومثله : ( إذ القلوب لدى الحناجر ) . وقيل : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب ، أو الغم الشديد ، ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثم قيل للجبان ، انتفخ سحره . والظنون : جمع لما اختلفت متعلقاته ، وإن كان لا ينقاس عند من جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته ، وينقاس عند غيره ، وقد جاء الظنون جمعا في أشعارهم ، أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان :
إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا
[ ص: 217 ] فظن المؤمنون الخلص أن ما وعدهم الله من النصر حق ، وأنهم يستظهرون ; وظن الضعيف الإيمان مضطربه ، والمنافقون ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين سيغلبون ، وكل هؤلاء يشملهم الضمير في ( وتظنون ) . وقال الحسن : ظنوا ظنونا مختلفة ، ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون ، وظن المؤمنون أنهم يبتلون . وقال ابن عطية : أي : يكادون يضطربون ، ويقولون : ما هذا الخلف للوعد ؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين ، لا يمكن البشر دفعها . وأما المنافقون فعجلوا ونطقوا . وقال : ظن المؤمنون الثبت القلوب بالله أن يبتليهم ويفتنهم ، فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ; والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ظنوا بالله ما حكى عنهم ، وكتب : ( الظنونا ) و ( الرسولا ) و ( السبيلا ) في المصحف بالألف ، فحذفها الزمخشري حمزة وأبو عمرو وقفا ووصلا ; وابن كثير ، ، والكسائي وحفص : بحذفها وصلا خاصة ; وباقي السبعة : بإثباتها في الحالين . واختار أبو عبيد والحذاق أن يوقف على هذه الكلمة بالألف ، ولا يوصل ، فيحذف أو يثبت ; لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ، ولأن إثباتها الوصل معدوم في لسان العرب ، نظمهم ونثرهم ، لا في اضطرار ولا غيره . أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقته لبعض مذاهب العرب ; لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم وفي تصاريفها ، والفواصل في الكلام كالمصارع . وقال أبو علي : هي رءوس الآي ، تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع ، كما كانت القوافي مقاطع .
و ( هنالك ) ظرف مكان للبعيد هذا أصله ، فيحمل عليه ، أي : في ذلك المكان الذي وقع فيه الحصار والقتال ( ابتلي المؤمنون ) والعامل فيه ( ابتلي ) . وقال ابن عطية : ( هنالك ) ظرف زمان ; قال : ومن قال إن العامل فيه ( وتظنون ) فليس قوله بالقوي ; لأن البداءة ليست متمكنة . وابتلاؤهم ، قال الضحاك : بالجوع . وقال مجاهد : بالحصار . وقيل : بالصبر على الإيمان . ( وزلزلوا ) قال ابن سلام : حركوا بالخوف . وقيل ; ( زلزلوا ) فثبتوا وصبروا حتى نصروا . وقيل : حركوا إلى الفتنة فعصموا . وقرأ الجمهور : ( وزلزلوا ) ، بضم الزاي . وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي ، عن أبي عمرو : بكسر الزاي ، قال ابن خالويه . وقال ، وعن الزمخشري أبي عمرو : إشمام زاي زلزلوا . انتهى ، كأنه يعني إشمامها الكسر ، ووجه الكسر في هذه القراءة الشاذة أنه أتبع حركة الزاي الأولى بحركة الثانية ، ولم يعتد بالساكن ، كما يعتد به من قال : منتن ، بكسر الميم إتباعا لحركة التاء ، وهو اسم فاعل من أنتن . وقرأ الجمهور : ( زلزالا ) بكسر الزاي ; والجحدري ، وعيسى : بفتحها ، وكذا : " إذا زلزلت الأرض زلزالها " ومصدر فعلل من المضاعف يجوز فيه الكسر والفتح نحو : قلقل قلقالا . وقد يراد بالمفتوح معنى اسم الفاعل ، فصلصال بمعنى مصلصل ، فإن كان غير مضاعف ، فما سمع منه على فعلان ، مكسور الفاء ، نحو : سرهفه سرهافا .