لما ذكر تعالى قصة زيد وزينب وتطليقه إياها ، وكانت مدخولا بها ، واعتدت ، وخطبها الرسول ، عليه السلام ، بعد انقضاء عدتها ، بين حال من طلقت قبل المسيس ، وأنها لا عدة عليها .
ومعنى ( نكحتم ) عقدتم عليهن . وسمي العقد نكاحا لأنه سبب إليه ، كما سميت الخمر إثما لأنها سبب له . قالوا : ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد ، وهو من آداب القرآن ; كما كنى عن الوطء بالمماسة والملامسة والقربان والتغشي والإتيان ، قيل : إلا في قوله : ( حتى تنكح زوجا غيره ) فإنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة . والكتابيات ، وإن شاركت المؤمنات في هذا الحكم ، فتخصيص المؤمنات بالذكر تنبيه على أن المؤمن لا ينبغي أن يتخير لنطفته إلا المؤمنة . وفائدة المجيء بثم ، وإن كان الحكم ثابتا ، إن تزوجت وطلقت على الفور ، ولمن تأخر طلاقها . قال : نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم بين أن يطلقها ، وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ، وتتراخى بها المدة في حيالة الزوج ثم يطلقها . انتهى . واستعمل صلة لمن : عسى ، وهو لا يجوز ، أو لوحظ في ذلك الغالب ، فإن من أقدم على العقد على امرأة ، إنما يكون ذلك [ ص: 240 ] لرغبة ، فيبعد أن يطلقها على الفور ; لأن الطلاق مشعر بعدم الرغبة ، فلا بد أن يتخلل بين العقد والطلاق مهلة يظهر فيها للزوج نأيه عن المرأة ، وأن المصلحة في ذلك له . والظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد ، ولا يصح طلاق من لم يعقد عليها عينها أو قبيلتها أو البلد ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين . وقالت طائفة كبيرة منهم مالك : يصح ذلك . والظاهر أن المسيس هنا كناية عن الجماع ، وأنه إذا خلا بها ثم طلقها ، لا يعقد . وعند الزمخشري أبي حنيفة وأصحابه : حكم الخلوة الصحيحة حكم المسيس . والظاهر أن المطلقة رجعية ، إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ، ثم فارقها قبل أن يمسها ، لا تتم عدتها من الطلقة الأولى ، ولا تستقبل عدة ; لأنها مطلقة قبل الدخول ، وبه قال داود . وقال عطاء وجماعة : تمضي في عدتها عن طلاقها الأول ، وهو أحد قولي . وقال الشافعي مالك : لا تبني على العدة من الطلاق الأول ، وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني ، وهو قول فقهاء جمهور الأمصار . والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة ، فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول ، كالرجعية في قول داود ، ليس عليها عدة ، لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة الثاني ، ولها نصف المهر . وقال الحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، ، وابن شهاب ومالك ، ، والشافعي ، وعثمان البتي وزفر : لها نصف الصداق ، وتتم بقية العدة الأولى . وقال ، الثوري ، والأوزاعي وأبو حنيفة ، وأبو يونس : لها مهر كامل للنكاح الثاني ، وعدة مستقبلة ، جعلوها في حكم المدخول بها ، لاعتدادها من مائة .
وقرأ الجمهور : ( تعتدونها ) بتشديد الدال : افتعل من العد ، أي : تستوفون عددها ، من قولك : عد الدراهم فاعتدها ، أي : استوفى عددها ; نحو قولك : كلته واكتاله ، وزنته فاتزنته . وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة : بتخفيف الدال ، ونقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي . وقال ابن عطية : وروي عن أبي برزة ، عن ابن كثير : بتخفيف الدال من العدوان ، كأنه قال : فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن ، والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير ، وتخفيف الدال وهم من أبي برزة . انتهى . وليس بوهم ، إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازي في ( كتاب اللوامح في شواذ القراءات ) ونقلها الرازي المذكور عن أهل مكة وقال : هو من الاعتداد لا محالة ، لكنهم كرهوا التضعيف فخففوه . فإن جعلت من الاعتداء الذي هو الظلم ضعف ; لأن الاعتداء يتعدى بعلى . انتهى . وإذا كان يتعدى بعلى ، فيجوز أن لا يحذف على ، ويصل الفعل إلى الضمير ، نحو قوله :
تحن فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني
أي : لقضى علي . وقال : وقرئ : تعتدونها مخففا ، أي : تعتدون فيها ، كقوله : ويوما شهدناه . والمراد بالاعتداء ما في قوله : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا . انتهى . ويعني أنه اتصل بالفعل لما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدة ، كقوله : الزمخشري
ويوما شهدناه سليما وعامرا
أي : شهدنا فيه . وأما على تقدير " على " ، فالمعنى : تعتدون عليهن فيها . وقرأ الحسن : بإسكان العين كغيره ، وتشديد الدال جمعا بين الساكنين . وقوله : ( فما لكم ) يدل على أن العدة حق الزوج فيها غالب ، وإن كانت لا تسقط بإسقاطه ، لما فيه من حق الله تعالى . والظاهر أن من طلقت قبل المسيس لها المتعة مطلقا ، سواء كانت ممدودة أم مفروضا لها . وقيل : يختص هذا الحكم بمن لا مسمى لها . والظاهر أن الأمر في ( فمتعوهن ) للوجوب ، وقيل : للندب ، وتقدم الكلام مشبعا في المتعة في البقرة . والسراح الجميل : هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب . وقيل : أن لا يطالبها بما آتاها . ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين ، أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم . والأجور : المهور ; لأنه أجر على [ ص: 241 ] الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع . وفي وصفهن بـ ( اللاتي آتيت أجورهن ) تنبيه على أن الله اختار لنبيه الأفضل والأولى ; لأن إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره ، ليتفصى الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ، ولأن تأخيره يقتضي أنه يستمتع بها مجانا دون عوض تسلمته ، والتعجيل كان سنة السلف ، لا يعرف منهم غيره . ألا ترى إلى قوله ، عليه السلام ، لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج : " " ؟ وكذلك تخصيص ما ملكت يمينه بقوله : ( فأين درعك الحطمية مما أفاء الله عليك ) لأنها إذا كانت مسبية ، فملكها مما غنمه الله من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما تشترى من الجلب . فما سبي من دار الحرب قيل فيه سبي طيبة ، وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة ، وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث .
والظاهر أن قوله : ( إنا أحللنا لك أزواجك ) مخصوص لفظة ( أزواجك ) بمن كانت في عصمته ، كعائشة ، ومن تزوجها بمهر . وقال وحفصة ابن زيد : أي : من تزوجها بمهر ، ومن تزوجها بلا مهر ، وجميع النساء حتى ذوات المحارم من ممهورة ورقيقة وواهبة نفسها مخصوصة به . ثم قال بعد ( ترجي من تشاء منهن ) أي : من هذه الأصناف كلها ، ثم الضمير بعد ذلك يعم إلى قوله : ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) فينقطع من الأول ويعود على أزواجه التسع فقط ، وفي التأويل الأول تضييق . وعن : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج أي النساء شاء ، وكان ذلك يشق على نسائه . فلما نزلت هذه الآية ، وحرم عليه بها النساء ، إلا من سمي ، سر نساؤه بذلك ، وملك اليمين إنما يعلقه في النادر ، وبنات العم ، ومن ذكر معهن يسير . ومن يمكن أن يتزوج منهن محصور عند نسائه ، ولا سيما وقد قرن بشرط الهجرة ، والواجب أيضا من النساء قليل ، فلذلك سر بانحصار الأمر . ثم مجيء ( ابن عباس ترجي من تشاء منهن ) إشارة إلى ما تقدم ، ثم مجيء ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) إشارة إلى أن أزواجه اللواتي تقدم النص عليهن بالتحليل ، فيأتي الكلام مثبتا مطردا أكثر من اطراده على التأويل الآخر .
( وبنات عمك ) قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه ; لأني لم أهاجر معه ، وإنما كنت من الطلقاء . والتخصيص بـ ( أم هانئ بنت أبي طالب اللاتي هاجرن معك ) لأن من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات . وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ . وحكى الماوردي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق . والثاني : أنه شرط في إحلال قرابات المذكورات في الآية دون الأجنبيات ، والمعية هنا : الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها ، فيقال : دخل فلان معي وخرج معي ، أي : كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان . ولو قلت : فرجعنا معا ، اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل ، والاقتران في الزمان . وأفرد العم والخال لأنه اسم جنس ، والعمة والخالة كذلك ، وهذا حرف لغوي قاله . أبو بكر بن العربي القاضي
( وامرأة مؤمنة ) قال ، ابن عباس وقتادة : هي . وقال ميمونة بنت الحارث علي بن الحسين ، والضحاك ، ومقاتل : هي . وقال أم شريك عروة ، : هي والشعبي ، أم المساكين ، امرأة من زينب بنت خزيمة الأنصار . وقال عروة أيضا : هي خولة بنت حكيم بن الأوقص السلمية . واختلف في ذلك . فعن : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهن بالهبة . وقيل : الموهبات أربع : ابن عباس ، ومن ذكر معها قبل . وقرأ الجمهور : ( وامرأة ) بالنصب ; ( ميمونة بنت الحارث إن وهبت ) بكسر الهمزة : أي : أحللناها لك إن وهبت إن أراد ، فهنا شرطان ، والثاني في معنى الحال ، شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة إرادة استنكاح النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ; لأن إرادته هي قبوله الهبة وما به تتم ، وهذان الشرطان نظير الشرطين في قوله : [ ص: 242 ] ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) . وإذا اجتمع شرطان ، فالثاني شرط في الأول ، متأخر في اللفظ ، متقدم في الوقوع ، ما لم تدل قرينة على الترتيب ، نحو : إن تزوجتك أو طلقتك فعبدي حر . واجتماع الشرطين مسألة فيها خلاف وتفصيل ، وقد استوفينا ذلك في ( شرح التسهيل ) في باب الجوازم . وقرأ أبو حيوة : " وامرأة مؤمنة " ، بالرفع على الابتداء ، والخبر محذوف : أي : أحللناها لك . وقرأ أبي ، والحسن ، ، والشعبي وعيسى ، وسلام : " أن " بفتح الهمزة ، وتقديره : لأن وهبت ، وذلك حكم في امرأة بعينها ، فهو فعل ماض ، وقراءة الكسر استقبال في كل امرأة كانت تهب نفسها دون واحدة بعينها . وقرأ : إذ وهبت ، إذ ظرف لما مضى ، فهو في امرأة بعينها . زيد بن علي
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة في النبي صلى الله عليه وسلم ( إن أراد النبي ) ثم رجع إلى الخطاب في قوله : ( خالصة لك ) للإيذان بأنه مما خص به وأوثر . ومجيئه على لفظ النبي ، لدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته . واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه . والجمهور : على أن التزويج لا يجوز بلفظ الإجارة ولا بلفظ الهبة . وقال : يجوز بلفظ الإجارة لقوله : ( أبو الحسن الكرخي اللاتي آتيت أجورهن ) وحجة من منع أن عقد الإجارة مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فتنافيا . وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى جواز عقد النكاح بلفظ الهبة إذا وهبت ، فأشهد على نفسه بمهر ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته سواء في الأحكام ، إلا فيما خصه الدليل . وحجة الجمهور : أنه ، عليه السلام ، خص بمعنى الهبة ولفظها جميعا ; لأن اللفظ تابع للمعنى ، والمدعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل . وقرأ الجمهور : ( خالصة ) بالنصب ، وهو مصدر مؤكد ( كوعد الله ) و ( صبغة الله ) أي : أخلص لك إخلاصا . ( أحللنا لك ) ( خالصة ) بمعنى خلوصا ، ويجيء المصدر على فاعل وعلى فاعلة . وقال : والفاعل والفاعلة في المصادر على غير عزيزين ، كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة . انتهى ، وليس كما ذكر ، بل هما عزيزان ، وتمثيله كالخارج يشير إلى قول الزمخشري : الفرزدق
ولا خارجا من في زور كلام
والقاعد إلى أحد التأويلين في قوله :
أقاعدا وقد سار الركب
والكاذبة إلى قوله تعالى : ( ليس لوقعتها كاذبة ) . وقد تتأول هذه الألفاظ على أنها ليست مصادر . وقرئ : " خالصة " ، بالرفع ، فمن جعله مصدرا ، قدره : ذلك خلوص لك ، وخلوص من دون المؤمنين . والظاهر أن قوله : ( خالصة لك ) من صفة الواهبة نفسها لك ، فقراءة النصب على الحال ، قاله : أي : أحللناها خالصة لك ، والرفع خبر مبتدأ : أي : هي خالصة لك ، أي : هبة النساء أنفسهن مختص بك ، لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك . وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره ، عليه السلام . ويظهر من كلام الزجاج أن معنى قوله : ( أبي بن كعب خالصة لك ) يراد به جميع هذه الإباحة ; لأن المؤمنين قصروا على مثنى وثلاث ورباع . وقال : والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على سبيل التوكيد لها قوله : ( الزمخشري قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم ) بعد قوله : ( من دون المؤمنين ) وهي جملة اعتراضية . وقوله : ( لكيلا يكون عليك حرج ) متصل بـ ( خالصة لك من دون المؤمنين ) في الأزواج الإماء ، وعلى أي حد وصفه يجب أن يفرض عليهم ، ففرضه وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصه به ، ففعل .
ومعنى ( لكيلا يكون عليك حرج ) أي : لكيلا يكون عليك ضيق في دينك ، حيث اختصصناك بالتنزيه ، واختصاص ما هو أولى وأفضل في دنياك ، حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات ، وزدناك الواهبة نفسها ; ومن جعل ( خالصة ) نعتا للمرأة ، فعلى مذهبه : هذه المرأة خالصة لك من دونهم . انتهى . والظاهر أن ( لكيلا ) متعلق بقوله : ( أحللنا لك أزواجك ) . وقال ابن عطية : ( لكيلا يكون ) أي : بينا هذا البيان [ ص: 243 ] وشرحنا هذا الشرح لكي لا يكون عليك حرج ، ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك ، ثم آنس جميع المؤمنين بغفرانه ورحمته . وقال : ( غفورا ) للواقع في الحرج إذا تاب ( رحيما ) بالتوسعة على عباده . انتهى ، وفيه دسيسة اعتزالية . ( الزمخشري قد علمنا ما فرضنا عليهم ) الآية ، معناه : أن ما ذكرنا فرضك وحكمك مع نسائك ، وأما حكم أمتك فعندنا علمه ، وسنبينه لهم . وإنما ذكر هذا لئلا يحمل واحد من المؤمنين نفسه على ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن له في النكاح والتسري خصائص ليست لغيره . وقال مجاهد : ( ما فرضنا عليهم ) هو أن لا يجاوزوا أربعا . وقال قتادة : هو الولي والشهود والمهر . وقيل : ما فرضنا من المهر والنفقة والكسوة . ( وما ملكت أيمانهم ) قيل : لا يثبت الملك إلا إذا كانت ممن يجوز سبيها . وقيل : ما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور ، والمعنى : قد علمنا إصلاح كل منك ومن أمتك ، وما هو الأصلح لك ولهم ، فشرعنا في حقك وحقهم على وفق ما علمنا .
روي أن أزواجه عليه السلام لما تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، فهجرهن شهرا ، ونزل التخيير ، فأشفقن أن يطلقن فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت . وتقدم الكلام في معنى ( ترجي ) في قوله : ( وآخرون مرجون لأمر الله ) في سورة براءة . والظاهر أن الضمير في ( منهن ) عائد على أزواجه عليه السلام ، والإرجاء : الإيواء . قال ، ابن عباس والحسن : في طلاق ممن تشاء ممن حصل في عصمتك ، وإمساك من تشاء . وقالت فرقة : في تزوج من تشاء من الواهبات ، وتأخير من تشاء . وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : وتقرر من شئت في القسمة لها ، وتؤخر عنك من شئت ، وتقلل لمن شئت ، وتكثر لمن شئت ، لا حرج عليك في ذلك ، فإذا علمن أن هذا حكم الله وقضاؤه ، زالت الإحنة والغيرة عنهن ورضين وقرت أعينهن ، وهذا مناسب لما روي في سبب هذه الآية المتقدم ذكره .
( ومن ابتغيت ممن عزلت ) أي : ومن طلبتها من المعزولات ومن المفردات ( فلا جناح عليك ) في ردها وإيوائها إليك . ويجوز أن يكون ذلك توكيدا لما قبله ، أي : ومن ابتغيت ممن عزلت ومن عزلت سواء ، لا جناح عليك . كما تقول : من لقيك ممن لم يلقك ، جميعهم لك شاكر ، تريد من لقيك ومن لم يلقك ، وفي هذا الوجه حذف المعطوف ، وغرابة في الدلالة على هذا المعنى بهذا التركيب ، والراجح القول الأول . وقال الحسن : المعنى : من مات من نسائك اللواتي عندك ، أو خليت سبيلها ، فلا جناح عليك أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك ، فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك . وقال : بمعنى تترك مضاجع من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت ، أو تترك من تشاء من أمتك وتتزوج من شئت . وعن الزمخشري الحسن : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض ; لأنه إما أن يطلق ، وإما أن يمسك . فإذا أمسك ضاجع ، أو ترك وقسم ، أو لم يقسم . وإذا طلق وعزل ، فإما أن يخلي المعزولة لا يتبعها ، أو يتبعها . وروي أنه أرجأ منهن : ، سودة ، وجويرية وصفية ، وميمونة ، . فكان يقسم لهن ما شاء كما شاء ، وكانت ممن أوى إليه : وأم حبيبة عائشة ، ، وحفصة ، وأم سلمة وزينب ، أرجأ خمسا وأوى أربعا . وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا ، فإنها وهبت نفسها سودة لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك . انتهى . ذلك التفويض إلى مشيئتك أدنى إلى قرة عيونهن وانتفاء حزنهن ووجود رضاهن ، إذا علمت أن ذلك التفويض من عند الله ، فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك .
وقرأ الجمهور : ( أن تقر أعينهن ) مبنيا للفاعل من قرت العين ; وابن محيصن : " يقر " من : أقر أعينهن ، بالنصب ، وفاعل " تقر " ضمير الخطاب ، أي : أنت . وقرئ : " تقر " مبنيا للمفعول ، وأعينهن بالرفع . وقرأ الجمهور : ( كلهن ) بالرفع ، [ ص: 244 ] تأكيدا لنون ( يرضين ) ; وأبو إياس حوبة بن عائذ : بالنصب تأكيدا لضمير النصب في ( آتيتهن ) . ( والله يعلم ما في قلوبكم ) عام . قال ابن عطية : والإشارة به ههنا إلى ما في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ، ويدخل في المعنى المؤمنون . وقال ، الزمخشري وعبيدة : من لم يرض منهن بما يريد الله من ذلك ، وفوض إلى مشيئة رسوله ، وبعث على تواطؤ قلوبهن ، والتصافي بينهن ، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما فيه طيب نفسه . انتهى . ( وكان الله عليما ) بما انطوت عليه القلوب ( حليما ) يصفح عما يغلب على القلب من المسئول ، إذ هي مما لا يملك غالبا . واتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام ، كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات ، ولم يستعمل شيئا مما أبيح له ، ضبطا لنفسه وأخذا بالفضل ، غير ما جرى مما ذكرناه . لسودة
( لا يحل لك النساء من بعد ) الظاهر أنها محكمة ، وهو قول وجماعة ، منهم أبي بن كعب الحسن ، واختاره وابن سيرين . و ( من بعد ) المحذوف منه مختلف فيه ، فقال الطبري أبي ، وعكرمة ، والضحاك : ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله : ( إنا أحللنا لك أزواجك ) . فعلى هذا المعنى ، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة : لا أعرابية ، ولا عربية ، ولا كتابية ، ولا أمة بنكاح . وقال ، ابن عباس وقتادة : من بعد ; لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمته منهن . قال : لما خيرن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء . وقال مجاهد ، : وروي عن وابن جبير عكرمة : من بعد ، أي : من بعد إباحة النساء على العموم ، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية . وكذلك : ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) أي : بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات . وقيل : في قوله ( ولا أن تبدل ) هو من البدل الذي كان في الجاهلية . كان يقول الرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر . قال معناه ابن زيد ، وأنه كان في الجاهلية ، وأنكر هذا القول وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا . وما روي من حديث الطبري عيينة بن حصن ، أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حين دخل عليه بغير استئذان ، وعنده عائشة . من هذه الحميراء ؟ فقال : " عائشة " ، فقال عيينة : يا رسول الله ، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا ، فليس بتبديل ، ولا أراد ذلك ، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية . ومن في ( من أزواج ) زائدة لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم . وقيل : الآية منسوخة ، واختلف في الناسخ فقيل : بالسنة . قالت عائشة : ما مات حتى حل له النساء . وروي ذلك عن ، وهو قول أم سلمة علي وابن عباس والضحاك ، وقيل بالقرآن ، وهو قوله : ( ترجي من تشاء منهن ) الآية . قال هبة الله الضرير في الناسخ والمنسوخ له ، وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا . قال ابن عطية : وكلامه يضعف من جهات . انتهى . وقيل : قوله ( إنا أحللنا لك أزواجك ) الآية ، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف . وقد روي عن القولان : إنها محكمة ، وإنها منسوخة . ابن عباس
( ولو أعجبك حسنهن ) قيل : منهن ، امرأة أسماء بنت عميس الخثعمية . والجملة ، قال جعفر بن أبي طالب ، في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في ( تبدل ) لا من المفعول الذي هو ( الزمخشري من أزواج ) لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضا إعجابك لهن ; وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة ، أي : ( ولا أن تبدل بهن من أزواج ) على كل حال ، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل ، وهي حالة الإعجاب بالحسن . قال ابن عطية : وفي هذا اللفظ ( أعجبك حسنهن ) دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها . انتهى . وقد جاء ذلك في السنة من [ ص: 245 ] حديث ، وحديث المغيرة بن شعبة محمد بن مسلمة .
( إلا ما ملكت يمينك ) أي : فإنه يحل لك . وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس ، فهو استثناء من الجنس ، يختار فيه الرفع على البدل من ( النساء ) . ويجوز النصب على الاستثناء ، وإن كانت مصدرية ، ففي موضع نصب ; لأنه استثناء من غير جنس الأول ، قاله ابن عطية ، وليس بجيد ; لأنه قال : والتقدير : إلا ملك اليمين ، وملك بمعنى مملوك ، فإذا كان بمعنى مملوك صار من جملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر ، فيكون الرفع هو أرجح ، ولأنه قال : وهو في موضع نصب ، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب . ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة ، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل ; لأنه مستثنى يمكن توجه العامل عليه ، وإنما يكون النصب متحتما حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو : ما زاد المال إلا النقص ، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص ، ولأنه قال : استثناء من غير الجنس . وقال مالك : بمعنى مملوك فناقض . ( وكان الله على كل شيء رقيبا ) أي : راقبا ، أو مراقبا ، ومعناه : حافظ وشاهد ومطلع ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه .