وقرأ الجمهور ( في مساكنهم ) جمعا والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفردا بفتح الكاف ; : مفردا بكسرها ، وهي قراءة والكسائي الأعمش وعلقمة . وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم ، والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة . وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ; لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفردا يراد به الجمع ; لأن يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم . وقوله : سيبويه
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
أي جلود .
آية : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم عنها الخمط والأثل ثمرة لهم ، و ( جنتان ) خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ، قاله ، أو بدل ، قال معناه الزجاج الفراء قال : رفع لأنه تفسير لآية . وقال وغيره وضعفه مكي ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه . [ ص: 270 ] وقال ( جنتان ) ابتداء ، وخبره في قوله ( عن يمين وشمال ) انتهى . ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد أن ثم صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم ( عن يمين وشمال ) ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله . وقرأ : جنتين بالنصب ، على أن ( آية ) اسم كان وجنتين الخبر . قيل : ووجه كون الجنتين ( آية ) نبات الخمط والأثل والسدر مكان الأشجار المثمرة . قال ابن أبي عبلة قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة . انتهى . قال : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد : بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال ( الزمخشري جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب ) . انتهى . قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ; وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلئ ثمارا من غير أن تتناول بيدها شيئا . وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف . وابن عباس
( كلوا من رزق ربكم ) قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الإيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعما كثيرة وأرزاقا مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض . ( واشكروا له ) على ما أنعم به عليكم ، ( بلدة طيبة ) أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوام والمضار ( ورب غفور ) لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية . وقرأ رويس : بنصب الأربعة . قال أحمد بن يحيى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا . وقال : منصوب على المدح . ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال ( الزمخشري فأعرضوا ) أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ، وكانوا ثلاثة عشر نبيا ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم . كما قال ( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ) فسلط الله عليهم الجرذ فأرا أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئا بعد شيء ، وأرسل سيلا في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار . وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه . وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء . وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة . وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى :
وفي ذاك للمؤتسي أسوة مآرب عفى عليها العرم رخام بنته لهم حمير
إذا جاش دفاعه لم يرم فأروى الزروع وأشجارها
على سعة ماؤه إذ قسم فصاروا أيادي لا يقدرو
ن منه على شرب طفل فطم
وقال آخر :
ومن سبأ للحاضرين مآرب إذا بنوا من دونه سيل العرم
وقال ، ابن عباس وقتادة ، والضحاك : العرم : اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به . انتهى . ويمكن [ ص: 271 ] أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاورته له ، فصار علما عليه . وقال أيضا : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ . وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة . وقرأ ابن عباس عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد .
ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم . وعن : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى ابن عباس مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا . انتهى .
ودخلت الباء في ( بجنتيهم ) على الزائل ، وانتصب ما كان بدلا ، وهو قوله ( جنتين ) على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيرا لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضادا بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله ( ومن يتبدل الكفر بالإيمان ) . وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ; لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ; لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها . وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال ( ذواتي أكل ) ، كما جاء ( ذواتا أفنان ) . ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتا كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أكل وسكونها . وقرأ الجمهور : ( أكل ) منونا ، والأكل : الثمر المأكول ، فخرجه على أنه على حذف مضاف ، أي أكل خمط قال أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل ذواتي أكل شبع . انتهى . والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله . وقال الزمخشري أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ; لأن الخمط ليس بالأكل نفسه . انتهى . وهو جائز على ما قاله ; لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه . قال الزمخشري أبو علي : والصفة أيضا كذلك ، يريد لا بجنتين ; لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها . انتهى . وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون ، فأبوا على الأخذ بقولهم في هذه المسألة . وقرأ أبو عمرو : أكل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط . وقرئ : وأثلا وشيئا بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفا على جنتين . وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر . ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه . ( وهل نجازي ) بذلك العقاب ( إلا الكفور ) أي المبالغ في الكفر ، يجازى بمثل فعله قدرا بقدر ، وأما المؤمن فجزاؤه بتفضيل وتضعيف . وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعا ; وحمزة : بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصبا . وقرأ والكسائي مسلم بن جندب : يجازى مبنيا للمفعول ، الكفور رفعا ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في تقييدهم قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر .
( وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة ) جاءت هذه الجملة بعد قوله ( وبدلناهم ) ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري . وقوله ( وجعلنا ) ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه [ ص: 272 ] مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها ، وقدر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض . قال ابن عطية : حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد . والقرى : المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضا قرية . والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ، بإجماع من المفسرين . والقرى الظاهرة هي التي بين الشام ومأرب ، وهي الصغار التي هي البوادي . انتهى . وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر ، قال مجاهد : هي السراوى . وقال وهب : قرى صنعاء . وقال ابن جبير : قرى مأرب . وقال : قرى بيت المقدس . وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها . ووصف قرى ( بظاهرة ) ، قال ابن عباس قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية . قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق . وقال : ( ظاهرة ) : مرتفعة ، أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى . وقيل : ( ظاهرة ) ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى . وقيل : ( ظاهرة ) : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ( ظاهرة ) : عامرة . وقال المبرد ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ( ظاهرة ) خارجة عن المدة ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن . وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أي خارجا عنها ، وقوله ( ظاهرة ) تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا قول الشاعر :
فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني : الخارجين من بطحاء مكة . وفي الحديث : " وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف " . ( وقدرنا فيها السير ) قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمنا من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر . قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها . وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة . والظاهر أن قوله ( سيروا ) ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم . وقال : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . انتهى . ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم . وقال الزمخشري قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم . وقال ( الزمخشري سيروا فيها ) ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ; أو سيروا فيها آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياما وليالي ; أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين . انتهى . وقدم الليالي ; لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومن عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك .
ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا ( ربنا باعد بين أسفارنا ) . وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب ; وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ; ، وابن عباس ، وابن الحنفية وعمرو بن فائد : ربنا رفعا ، بعد فعلا ماضيا مشدد العين ; أيضا ، وابن عباس أيضا ; وابن الحنفية وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، ، [ ص: 273 ] وزيد بن علي وابن يعمر أيضا ; وأبو صالح ، ، وابن أبي ليلى والكلبي ، ، ومحمد بن علي وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ; أخي وسعيد بن أبي الحسن الحسين ، أيضا ، وابن الحنفية ، وسفيان بن حسين وابن السميفع : ربنا بالنصب ، ( بعد ) بضم العين فعلا ماضيا ( بين ) بالنصب ، إلا سعيدا منهم ، فضم نون ( بين ) جعله فاعلا ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولا ، ومن رفع ( ربنا ) فلا يكون الفعل إلا ماضيا ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار . ومن قرأ باعد ، أو باعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول به لأنهما فعلان متعديان ، وليس ( بين ) ظرفا . ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسما ؟ فكذلك إذا نصب وقرئ ( بعد ) مبنيا للمفعول . وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفردا ; والجمهور : بالجمع . ( وظلموا أنفسهم ) عطف على ( فقالوا ) . وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل . ( فجعلناهم أحاديث ) أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل . وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث . ( ومزقناهم كل ممزق ) أي تفريقا ، اتخذه الناس مثلا مضروبا ، فقال كثير :
أيادي سبا يا عز ما كنت بعدكم فلم يحل للعينين بعدك منظر
وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد . وقال ابن سلام : جعلناهم ترابا تذروه الرياح . وقال : غسان الزمخشري بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ; وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة . وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبددت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ; وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك .
( إن في ذلك لآيات ) أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة . ( لكل صبار ) ، عن المعاصي وعلى الطاعات . ( شكور ) ، للنعم . والظاهر أن الضمير في ( عليهم ) عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم . وقرأ ، ابن عباس وقتادة ، وطلحة ، ، والأعمش ، والكوفيون ( وزيد بن علي صدق ) بتشديد الدال ، وانتصب ( ظنه ) على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقا ، أي ظن شيئا فوقع ما ظن . وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن ظنا ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني ، وأصبت ظني ، ( وظنه ) هذا كان حين قال ( أضلنهم ولأغوينهم ) ، وهذا مما قاله ظنا منه ، فصدق هذا الظن . وقرأ ، زيد بن علي ، والزهري وجعفر بن محمد ، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب ، وبلال بن أبي برزة : بنصب ( إبليس ) ورفع ( ظنه ) . أسند الفعل إلى ظنه ; لأنه ظن فصار ظنه في الناس صادقا ، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمر : وإبليس ظنه ، برفعهما ، فظنه بدل من ( إبليس ) بدل اشتمال .
( فاتبعوه ) أي في الكفر . ( إلا فريقا ) هم المؤمنون ، ومن لبيان الجنس ، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك ، أن فريقا من المؤمنين اتبعوا إبليس . وفي قوله ( إلا فريقا ) ، تقليل ; لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل ، كما قال : لأحتنكن ذريته إلا قليلا ( وما كان له ) أي لإبليس ، ( عليهم من سلطان ) أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء ، ولا حجة إلا الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها . وعلل التسلط بالعلم ، والمراد ما تعلق به العلم ، قاله . وقال الزمخشري ابن عطية ( إلا لنعلم ) موجودا ; لأن العلم متقدم أولا . انتهى . وقال معناه ابن قتيبة ، قال : لنعلم حادثا [ ص: 274 ] كما علمناه قبل حدوثه . وقال قتادة : ليعلم الله به المؤمن من الكافر عاما ظاهرا يستحق به العقاب والثواب ; وقيل : ليعلم أولياؤنا وحزبنا . وقال الحسن : والله ما كان له سوط ولا سيف ، ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه . انتهى . كما قال تعالى عنه ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) . وقرأ : إلا ليعلم ، بضم الياء وفتح اللام ، مبنيا للمفعول . وقال الزهري ابن خالويه : إلا ليعلم من يؤمن بالياء . ( وربك على كل شيء حفيظ ) ، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ ، وإما بمعنى محافظ ، كجليس وخليل . والحفظ يتضمن العلم والقدرة ; لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه .