لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ، [ ص: 316 ] ذكر حال الكافرين ، وهذا يدل على أن أولئك الثلاثة هم في الجنة ، ( والذين كفروا ) هم مقابلوهم ، ( لا يقضى عليهم ) أي لا يجهز عليهم فيموتوا ; لأنهم إذا ماتوا بطلت حواسهم فاستراحوا . وقرأ الجمهور ( فيموتوا ) ، بحذف النون منصوبا في جواب النفي ، وهو على أحد معنيي النصب ; فالمعنى انتفى القضاء عليهم ، فانتفى مسببه ، أي لا يقضى عليهم ولا يموتون ، كقولك : ما تأتينا فتحدثنا ، أي ما يكون حديث ، انتفى الإتيان ، فانتفى الحديث . ولا يصح أن يكون على المعنى الثاني من معنى النصب ; لأن المعنى : ما تأتينا محدثا ، إنما تأتي ولا تحدث ، وليس المعنى هنا : لا يقضى عليهم ميتين ، إنما يقضى عليهم ولا يموتون . وقرأ عيسى ، والحسن : فيموتون ، بالنون ، وجهها أن تكون معطوفة على لا يقضى . وقال ابن عطية : وهي قراءة ضعيفة . انتهى . وقال أبو عثمان المازني : هو عطف ، أي فلا يموتون ، لقوله ( ولا يؤذن لهم فيعتذرون ) ، أي فلا يعتذرون ولا يخفف عنهم نوع عذابهم . والنوع في نفسه يدخله أن يحيوا ويسعدوا . قال ابن عطية : وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو : ولا يخفف بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل ، كقوله :
فاليوم أشرب غير مستحقب
وقرأ الجمهور ( نجزي كل ) ، مبنيا للفاعل ، ونصب ( كل ) ; وأبو عمرو ، وأبو حاتم عن نافع : بالياء مبنيا للمفعول ، ( كل ) بالرفع . ( وهم يصطرخون ) بني من الصرخ يفتعل ، وأبدلت من التاء طاء ، وأصله يصرخون ، والصراخ : شدة الصياح ، قال الشاعر :
صرخت حبلى أسلمتها قبيلها
واستعمل في الاستغاثة لجهة المستغيث صوته ، قال الشاعر :
وطول اصطراخ المرء في بعد قعرها وجهد شقي طال في النار ما عوى
( ربنا أخرجنا ) أي قائلين ربنا أخرجنا منها ، أي من النار ، وردنا إلى الدنيا . ( نعمل صالحا ) قال : نقل : لا إله إلا الله ، ( ابن عباس غير الذي كنا نعمل ) ، أي من الشرك ، ونمتثل أمر الرسل ، فنؤمن بدل الكفر ، ونطيع بدل المعصية . وقال : هل اكتفى بصالحا ، كما اكتفى به في ( ارجعنا نعمل صالحا ) ؟ وما فائدة زيادة ( الزمخشري غير الذي كنا نعمل ) على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلت : فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به ، وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسنون صنعا فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله . انتهى . روي أنهم يجابون بعد مقدار الدنيا ( أولم نعمركم ) ، وهو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير ، وما مصدرية ظرفية ، أي مدة يذكر . وقرأ الجمهور ( ما يتذكر فيه من تذكر ) . وقرأ : ما يذكر فيه ، من اذكر ، بالادغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج . وهذه المدة ، قال الأعمش الحسن : البلوغ ، يريد أنه أول حال التذكر ، وقيل : سبع عشرة سنة . وقال قتادة : ثمان عشرة سنة . وقال : عشرون . وقال عمر بن عبد العزيز : أربعون ; وقيل : خمسون . وقال علي : ستون ، وروي ذلك عن ابن عباس . ( ابن عباس وجاءكم ) معطوف على ( أولم نعمركم ) ; لأن معناه : قد عمرناكم ، كقوله ( ألم نربك فينا وليدا ) ، وقوله ( ألم نشرح لك صدرك ) ، ثم قال ( ولبثت فينا ) وقال ( ووضعنا ) ; لأن المعنى قد ربيناك وشرحنا . والنذير جنس ، وهم الأنبياء ، كل نبي نذير أمته . وقرئ : النذر جمعا ، وقيل : النذير : الشيب ، قاله ، ابن عباس وعكرمة ، وسفيان ، ، ووكيع والحسن بن الفضل ، ، والفراء . وقيل : موت الأهل والأقارب ; وقيل : كمال السفل . والطبري
( فذوقوا ) أي عذاب جهنم . وقرأ جناح بن حبيش : ( عالم ) منونا ، غيب نصبا ; والجمهور : على الإضافة . ومجيء هذه الجملة عقيب ما قبلها هو أنه تعالى ذكر أن الكافرين يعذبون دائما مدة كفرهم . كانت مدة يسيرة منقطعة ، فأخبر أنه تعالى ( عالم غيب السماوات والأرض ) ، فلا يخفى عليه ما تنطوي عليه الصدور من المضمرات . وكان يعلم من الكافر أنه تمكن [ ص: 317 ] الكفر في قلبه ، بحيث لو دام إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبده . وخلائف : جمع خليفة ، وخلفاء : جمع خليف ويقال للمستخلف : خليفة وخليف ، وفي هذا تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم ، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من مكذبي الرسل وما حل بهم من الهلاك ، ولا اعتبروا بمن كفر ، ولم يتعظوا بمن تقدم . ( فعليه كفره ) أي عقاب كفره ، والظاهر أنه خطاب عام ; وقيل : لأهل مكة . والمقت : أشد الاحتقار والبغض والغضب ، والخسار : خسار العمر . كأن العمر رأس مال ، فإن انقضى في غير طاعة الله ، فقد خسره واستعاض به بدل الربح بما يفعل من الطاعات سخط الله وغضبه ، بحيث صاروا إلى النار .
( قل أرأيتم شركاءكم ) ، قال الحوفي : ألف الاستفهام ذلك للتقرير ، وفي التحرير : أرأيتم : المراد منه أخبروني ; لأن الاستفهام يستدعي ذلك . يقول القائل : أرأيت ماذا فعل زيد ؟ فيقول السامع : باع واشترى ، ولولا تضمنه معنى أخبروني لكان الجواب نعم أو لا . وقال ابن عطية : أرأيتم ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني . وقال : أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني ، كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعن ما استحقوا به الإلهية والشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات ؟ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه ؟ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ، أو يكون الضمير في ( الزمخشري آتيناهم ) للمشركين لقوله ( أم أنزلنا عليهم سلطانا ) ، ( أم آتيناهم كتابا من قبله ) .
( بل إن يعد الظالمون بعضهم ) وهم الرؤساء ، ( بعضا ) وهم الأتباع ، ( إلا غرورا ) وهو قولهم ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) . انتهى . أما قوله ( أروني ) بدل من ( أرأيتم ) فلا يصح ; لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل ، وأيضا فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ، ثم البدل على نية تكرار العامل ، ولا يتأتى ذلك هنا ; لأنه لا عامل في أرأيتم فيتخيل دخوله على أروني . وقد تكلمنا في الأنعام على أرأيتم كلاما شافيا . والذي أذهب إليه أن أرأيتم بمعنى أخبرني ، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب ، والآخر مشتمل على استفهام . تقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع ؟ فالأول هنا هو ( شركاءكم ) ، والثاني ( ماذا خلقوا ) ، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد . ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الإعمال ; لأنه توارد على ماذا خلقوا ، أرأيتم وأروني ; لأن أروني قد تعلق على مفعولها في قولهم : أما ترى ، أي ترى هاهنا ، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين . وقيل : يحتمل أن يكون أرأيتم استفهاما حقيقيا ، وأروني أمر تعجيز للتبيين ، أي أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز ، أو تتوهمون فيها قدرة ؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة ، فكيف تعبدونها ؟ أو توهمتم لها قدرة ، فأروني قدرتها في أي شيء هي ، أهي في الأرض ؟ كما قال بعضهم : إن الله إله في السماء ، وهؤلاء آلهة في الأرض . قالوا : وفيها من الكواكب والأصنام صورها ، أم في السماوات ؟ كما قال بعضهم : إن السماء خلقت باستعانة الملائكة ، فالملائكة شركاء في خلقها ، وهذه الأصنام صورها ، أم قدرتها في الشفاعة لكم ؟ كما قال بعضهم : إن الملائكة ما خلقوا شيئا ، ولكنهم مقربون عند الله ، فنعبدهم لتشفع لنا ، فهل معهم من الله كتاب فيه إذنه لهم بالشفاعة ؟ انتهى . وأضاف الشركاء إليهم من حيث هم جعلوهم شركاء الله ، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولهم وجعلهم ، قيل : ويحتمل شركاءكم في النار لقوله ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) . والظاهر أن الضمير في ( آتيناهم ) عائد على الشركاء ، [ ص: 318 ] لتناسب الضمائر ، أي هل مع من جعل شركاء لله كتاب من الله فيه أن له شفاعة عنده ؟ فإنه لا يشفع إلا بإذنه . وقيل : عائد على المشركين ، ويكون التفاتا خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عنهم وتنزيلا لهم منزلة الغائب الذي لا يحصل للخطاب ، ومعناه : أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ، ولا عقل لمن يعبد ما لا يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ولا له شرك في السماء ; وإما بالنقل ، ولم نؤت المشركين كتابا فيه أمر بعبادة هؤلاء ، فهذه عبادة لا عقلية ولا نقلية . انتهى . وقرأ ، ابن وثاب ، والأعمش وحمزة ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وحفص ، وأبان عن عاصم ( على بينة ) ، بالإفراد ; وباقي السبعة : بالجمع .
ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف الحجة على بطلانها ، عقبه بذكر عظمته وقدرته ليتبين الشيء بضده ، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ) والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السماوات عن علوها . وقيل : معناه أن تزولا عن الدوران . انتهى . ولا يصح أن الأرض لا تدور . ويظهر من قول ابن مسعود : أن السماء لا تدور ، وإنما تجري فيها الكواكب . وقال : كفى بها زوالا أن تدور ، ولو دارت لكانت قد زالت . وأن تزولا في موضع المفعول له ، وقدر لئلا تزولا ، وكراهة أن تزولا . وقال : يمسك : يمنع من أن تزولا ، فيكون مفعولا ثانيا على إسقاط حرف الجر ، ويجوز أن يكون بدلا ، أي يمنع زوال السماوات والأرض ، بدل اشتمال . ( الزجاج ولئن زالتا ) إن تدخل غالبا على الممكن ، فإن قدرنا دخولها على الممكن ، فيكون ذلك باعتبار يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال ، فإن ذلك ممكن ، ثم واقع بالخبر الصادق ، أي ولئن جاء وقت زوالهما . ويجوز أن يكون ذلك على سبيل الفرض ، أي ولئن فرضنا زوالهما ، فيكون مثل ( لو ) في المعنى . وقد قرأ ابن أبي عبلة : ولو زالتا ، وإن نافية ، وأمسكهما في معنى المضارع جواب للقسم المقدر قبل لام التوطئة في لئن ، وإنما هو في معنى المضارع لدخول إن الشرطية ، كقوله ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) . أي ما يتبعون ، وكقوله ( ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا ) أي ليظلوا ، فيقدر هذا كله مضارعا لأجل إن الشرطية ، وجواب إن في هذه المواضع محذوف لدلالة جواب القسم عليه . قال : و ( إن أمسكها ) جواب القسم في ( الزمخشري ولئن زالتا ) ، سد مسد الجوابين . انتهى ، يعني أنه دل على الجواب المحذوف ، وإن أخذ كلامه على ظاهره لم يصح ; لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ، ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم . والشيء الواحد لا يكون معمولا غير معمول . و ( من ) في ( من أحد ) لتأكيد الاستغراق ، و ( من ) في ( من بعده ) لابتداء الغاية ، أي من بعد ترك إمساكه . وسأل رجلا أقبل من ابن عباس الشام : من لقيت ؟ قال كعبا ، قال : وما سمعته يقول ؟ قال : إن السماوات على منكب ملك ، قال : كذب كعب ، أما ترك يهوديته بعد ؟ ثم قرأ هذه الآية . وقال ابن مسعود لجندب البجلي ، وكان رجل أي في كلام آخره ما تمكنت اليهودية في قلب وكادت أن تفارقه . وقالت طائفة : اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول ، والأرض كذلك ، لإشراك الكفرة ، فيمسكها حكما منه عن المشركين وتربصا ليغفر لمن آمن منهم ، كما قال في آخر آية أخرى ( كعب الأحبار تكاد السماوات يتفطرن منه ) . وقال ( الزمخشري حليما غفورا ) ، غير معاجل بالعقوبة ، حيث يمسكها ، وكانتا جديرتين بأن تهدهد العظم كلمة الشرك ، كما قال ( تكاد السماوات يتفطرن منه ) الآية