هذه السورة مكية ، إلا أن فرقة زعمت أن قوله ( ونكتب ما قدموا ) ، و ( آثارهم ) ، فنزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول ، وليس زعما صحيحا . وقيل : إلا قوله ( وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ) الآية .
وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة ، قال ابن جبير هنا : [ ص: 323 ] إنه اسم من أسماء محمد - صلى الله عليه وسلم - ودليله ( إنك لمن المرسلين ) . قال السيد الحموي :
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة على المودة إلا آل ياسينا
وقال : معناه يا إنسان بالحبشية ، وعنه هو في لغة طيئ ، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ، ويجمعونه على ( أياسين ) ، فهذا منه . وقالت فرقة : يا : حرف نداء ، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه . وقال ابن عباس : إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيئ ، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين ، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره ، كما قالوا في القسم : م الله في ايمن الله . انتهى . والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف ، فدل على أن أصله أنيسان ; لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره ( أنيسين ) ، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين ، فلا يجوز ذلك ، لا أن يبنى على الضم ، ولا يبقى موقوفا ; لأنه منادى مقبل عليه ، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ، ويمتنع ذلك في حق النبوة . وقوله : كما قالوا في القسم م الله في ايمن الله ، هذا قول . ومن النحويين من يقول : إن ( م ) حرف قسم وليس مبقى من ايمن . وقرئ : بفتح الياء وإمالتها محضا ، وبين اللفظين . وقرأ الجمهور : بسكون النون مدغمة في الواو ; ومن السبعة : الزمخشري ، الكسائي وأبو بكر ، ، وورش وابن عامر : مظهرة عند باقي السبعة . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعيسى : بفتح النون . وقال قتادة : يس قسم . قال أبو حاتم : فقياس هذا القول فتح النون ، كما تقول : الله لأفعلن كذا . وقال : النصب ، كأنه قال : اتل يس ، وهذا على مذهب الزجاج أنه اسم للسورة . وقرأ سيبويه الكلبي : بضم النون ، وقال هي بلغة طيئ : يا إنسان . وقرأ السماك ، وابن أبي إسحاق أيضا : بكسرها ; قيل : والحركة لالتقاء الساكنين ، فالفتح كائن طلبا للتخفيف والضم كحيث ، والكسر على أصل التقائهما . وإذا قيل أنه قسم ، فيجوز أن يكون معربا بالنصب على ما قال أبو حاتم ، والرفع على الابتداء نحو : أمانة الله لأقومن ، والجر على إضمار حرف الجر ، وهو جائز عند الكوفيين . ( والحكيم ) : إما فعيل بمعنى مفعل ، كما تقول : عقدت العسل فهو عقيد : أي معقد ، وإما للمبالغة من حاكم ، وإما على معنى السبب ، أي ذي حكمة . ( على صراط ) خبر ثان ، أو في موضع الحال منه عليه السلام ، أو من المرسلين ، أو متعلق بالمرسلين . والصراط المستقيم : شريعة الإسلام .
وقرأ طلحة ، والأشهب ، وعيسى : بخلاف عنهما ; وابن عامر ، وحمزة ، : تنزيل ، بالنصب على المصدر ; وباقي السبعة ، والكسائي وأبو بكر ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والحسن ، ، والأعرج بالرفع : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو تنزيل ; والأعمش وأبو حيوة ، واليزيدي ، والقورصي عن أبي جعفر وشيبة ; بالخفض إما على البدل من القرآن ، وإما على الوصف بالمصدر . ( لتنذر ) متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة . ( ما أنذر ) ، قال عكرمة : بمعنى الذي ، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب ، فما مفعول ثان ، كقوله ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) . قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ( ما أنذر آباؤهم ) ، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل ، وكانت النذارة فيهم . و ( فهم ) على هذا التأويل بمعنى فإنهم ، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة ، فتتعلق بقوله ( إنك لمن المرسلين ) . ( لتنذر ) ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل ، أو فهو غافل . وقال قتادة : ما نافية ، أي أن آباءهم لم ينذروا ، فآباؤهم على هذا هم القريبون منهم ، وما أنذر في موضع الصفة ، أي غير منذر آباؤهم ، وفهم غافلون متعلق بالنفي ، أي لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم . وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه .
( لقد حق القول على أكثرهم ) المشهور أن القول ( لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) . وقيل : لقد سبق في علمه وجوب العذاب . وقيل : حق القول [ ص: 324 ] الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه ; فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك . والظاهر أن قوله ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ) الآية هو حقيقة لا استعارة . لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون ، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار . قال ابن عطية : وقوله ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) يضعف هذا ; لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله . انتهى ، ولا يضعف هذا . ألا ترى إلى قوله ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا ) ، وقوله ( قال رب لم حشرتني أعمى ) ؟ وإما أن يكون قوله ( فبصرك اليوم حديد ) ، كناية عن إدراكه ما يؤول إليه ، حتى كأنه يبصره . وقال الجمهور : ذلك استعارة . قال ، ابن عباس وابن إسحاق : استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء ، جعل الله هذا لهم مثلا في كفه إياهم عنه ، ومنعهم من أذاه حين بيتوه . وقال الضحاك ، : استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله ، كما قال ( والفراء ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) وقال عكرمة : نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم ، وفي غير ذلك من المواطن ، فمنعه الله ; وهذا قريب من قول ، فروي ابن عباس أن أبا جهل حمل حجرا ليدفع به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق ، فما فكوه إلا بجهد ، فأخذ آخر ، فلما دنا من الرسول ، طمس الله بصره فلم يره ، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه ، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة . ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل ، فنسب ذلك إلى جمع . وقالت فرقة : استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه . قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال ; لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يؤمنون ، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلولين . انتهى . وقال : مثل تصميمهم على الكفر ، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رءوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون ، أنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان ، وقول الزمخشري مثل تصميمهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله . والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر ، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل . والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال ; لأنها هي المذكورة والمحدث عنها . قال الزمخشري ابن عطية : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذقن مجتمع اللحيين ، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الإقناع في الهيئة . وقال : الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها ، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن ، فلا تخليه يطاطئ رأسه ويوطئ قذاله ، فلا يزال مقمحا . انتهى . وقال الزمخشري الفراء : القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه . وقال نحوه قال : يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو . وقال الزجاج أبو عبيدة : قمح قموحا : رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب ، والجمع قماح ، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها :
ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح
وقال الليث : هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود . وقال : للكانونين شهرا قماح ; لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رءوسها لشدة برده ، وأنشد الزجاج أبو زيد بيت الهذلي :
[ ص: 325 ]
فتى ما ابن الأعز إذا شتونا وحب الزاد في شهري قماح
( إنما تنذر ) تقدم ( لتنذر قوما ) ، لكنه لما كان محتوما عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال ( وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) ، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال ( إنما تنذر ) أي إنذارا ينفع من اتبع الذكر ، وهو القرآن . قال قتادة : أو الوعظ . ( وخشي الرحمن ) أي المتصف بالرحمة ، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفا من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب ، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر . ولما أحدث فيه النذارة ، بشره بمغفرة لما سلف ; ( وأجر كريم ) على ما أسلف من العمل الصالح ، وهو الجنة .
ولما ذكر تعالى الرسالة ، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمنا ، ذكر الحشر ، وهو أحد الأصول الثلاثة . والثالث هو توحيد ، فقال ( إنا نحن نحيي الموتى ) أي بعد مماتهم . وأبعد الحسن والضحاك في قوله : إحياؤهم : إخراجهم من الشرك إلى الإيمان .
( ونكتب ما قدموا ) ، كناية عن المجازاة : أي ونحصي ، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء . وقرأ زر ومسروق : ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنيا للمفعول ، وما قدموا من الأعمال . وآثارهم : خطاهم إلى المساجد . وقال : السير الحسنة والسيئة . وقيل : ما قدموا من السيئات وآثارهم من الأعمال . وقال : ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها ، وما هلكوا عنه من أثر حسن ، كعلم علموه ، وكتاب صنفوه ، أو حبيس أحبسوه ، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك ، أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين ، وسكة أحدثها فيها تحيرهم ، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه ، وكذلك كل سنة حسنة ، أو سيئة يستن بها ، ونحوه قوله عز وجل ( الزمخشري ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) ، من آثاره . انتهى . وقرأ الجمهور ( وكل شيء ) بالنصب على الاشتغال . وقرأ أبو السمال : بالرفع على الابتداء . والإمام المبين : اللوح المحفوظ ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال .