الأمر بقوله : ( فادعوا الله ) للمنيبين المؤمنين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي : اعبدوه ، ( مخلصين له الدين ) من الشرك على كل حال ، حتى في حال غيظ أعدائكم المتمالئين عليكم وعلى استئصالكم . و ( رفيع ) : خبر مبتدأ محذوف .
وقال : ثلاثة أخبار مترتبة على قوله : ( الزمخشري الذي يريكم ) ، أو أخبار مبتدأ محذوف ، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا . انتهى .
أما ترتبها على قوله : ( هو الذي يريكم ) ، فبعيد كطول الفصل ، وأما كونها أخبارا لمبتدأ محذوف ، فمبني على جواز تعدد الأخبار ، إذا لم تكن في معنى خبر واحد ، والمنع اختيار أصحابنا .
وقرئ : ( رفيع ) بالنصب على المدح ، واحتمل أن يكون ( رفيع ) للمبالغة [ ص: 455 ] على فعيل من رافع ، فيكون الدرجات مفعولة ، أي : رافع درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة . وبه فسر ابن سلام ، أو عبر بالدرجات عن السماوات ، أرفعها سماء فوق سماء ، والعرش فوقهن . وبه فسر ابن جبير ، واحتمل أن يكون ( رفيع ) فعيلا من رفع الشيء علا فهو رفيع ، فيكون من باب الصفة المشبهة ، والدرجات المصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش ، أضيفت إليه دلالة على عزه وسلطانه ، أي : درجات ملائكته ، كما وصفه بقوله : ( ذي المعارج ) ، أو يكون ذلك عبارة عن رفعة شأنه وعلو سلطانه .
كما أن قوله : ( ذو العرش ) عبارة عن ملكه ، وبنحوه فسر ابن زيد قال : عظيم الصفات . و ( الروح ) النبوة ، قاله قتادة ، والسدي ، كما قال : ( روحا من أمرنا ) ; وعن قتادة أيضا : الوحي .
وقال : القرآن ، وقال ابن عباس الضحاك : جبريل يرسله لمن يشاء . وقيل : الرحمة ، وقيل : أرواح العباد ، وهذان القولان ضعيفان ، والأولى الوحي ، استعير له الروح لحياة الأديان المرضية به ، كما قال : ( أومن كان ميتا فأحييناه ) . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عاملا لكل ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة . انتهى .
وقال : الروح : كل ما به حياة الناس ، وكل مهتد حي ، وكل ضال ميت . انتهى . الزجاج
وقال : ( ابن عباس من أمره ) : من قضائه . وقال مقاتل : بأمره ، وحكى من قوله ، ويظهر أن من لابتداء الغاية . الشعبي
وقرأ الجمهور : ( لينذر ) مبنيا للفاعل ، ( يوم ) بالنصب ، والظاهر أن الفاعل يعود على الله ؛ لأنه هو المحدث عنه . واحتمل ( يوم ) أن يكون مفعولا على السعة ، وأن يكون ظرفا ، والمنذر به محذوف . وقرأ أبي وجماعة كذلك إلا أنهم رفعوا يوم على الفاعلية مجازا . وقيل : الفاعل في القراءة الأولى ضمير الروح . وقيل : ضمير من .
وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح ( لينذر ) مبنيا للمفعول ( يوم التلاق ) برفع الميم . وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه ( لتنذر ) بالتاء ، فقالوا : الفاعل ضمير الروح ؛ لأنها تؤنث ، أو فيه ضمير الخطاب الموصول .
وقرئ : التلاق والتناد ، بياء وبغير ياء ، وسمي يوم التلاق لالتقاء الخلائق فيه ، قاله . وقال ابن عباس قتادة ومقاتل : يلتقي فيه الخالق والمخلوق .
وقال : يلتقي فيه الظالم والمظلوم . وحكى ميمون بن مهران الثعلبي : يلتقي المرء بعلمه . وقال : يلاقي أهل السماء أهل الأرض . وقيل : يلتقي العابدون ومعبودهم . السدي
( يوم هم بارزون ) أي : ظاهرون من قبورهم ، لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء ؛ لأن الأرض إذ ذاك قاع صفصف ، ولا من ثياب ؛ لأنهم يحشرون حفاة عراة . و ( يوما ) بدل من ( يوم التلاق ) وكلاهما ظرف مستقبل . والظرف المستقبل عند لا يجوز إضافته إلى الجملة الاسمية ، لا يجوز : أجيئك يوم زيد ذاهب ، إجراء له مجرى إذا ، فكما لا يجوز أن تقول : أجيئك إذا زيد ذاهب ، فكذلك لا يجوز هذا . سيبويه
وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك ، فيتخرج قوله : ( يوم هم بارزون ) على هذا المذهب .
وقد أجاز ذلك بعض أصحابنا على قلة ، والدلائل مذكورة في علم النحو . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون انتصابه على الظرف ، والعامل فيه قوله : ( لا يخفى ) ، وهي حركة إعراب لا حركة بناء ؛ لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، كيومئذ . وقال الشاعر :
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وكقوله تعالى : ( هذا يوم ينفع ) .
وأما في هذه الآية فالجملة اسم متمكن ، كما تقول : جئت يوم زيد أمير ، فلا يجوز البناء . انتهى .
يعني أن ينتصب على الظرف قوله : ( يوم هم بارزون ) . وأما قوله لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن ، فالبناء ليس متحتما ، بل يجوز فيه البناء والإعراب . وأما تمثيله ب ( يوم ينفع ) فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب ، ومذهب الكوفيين جواز البناء والإعراب فيه .
وأما إذا أضيف إلى جملة اسمية ، كما مثل من قوله : جئت يوم زيد أمير ، فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب ، كما ذكر ، [ ص: 456 ] والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء . وذهب إليه بعض أصحابنا ، وهو الصحيح لكثرة شواهد البناء على ذلك . ووقع في بعض تصانيف أصحابنا أنه يتحتم فيه البناء ، وهذا قول لم يذهب إليه أحد ، فهو وهم .
( لا يخفى على الله منهم شيء ) أي : من سرائرهم وبواطنهم . قال : إذا هلك من في السماوات ومن في الأرض ، فلم يبق إلا الله قال : ( ابن عباس لمن الملك اليوم ) ، فلا يجيبه أحد ، فيرد على نفسه : ( لله الواحد القهار ) .
وقال : يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد بأرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأول ما يتكلم به أن ينادي مناد : ( ابن مسعود لمن الملك اليوم ) ؟ فيجيبون كلهم : ( لله الواحد القهار ) . روي أنه تعالى يقرر هذا التقرير ويسكت العالم هيبة وجزعا ، فيجيب نفسه بقوله : ( لله الواحد القهار ) ، فيجيب الناس . وإنما خص التقرير باليوم ، وإن كان الملك له تعالى في ذلك اليوم وفي غيره ، لظهور ذلك للكفرة والجهلة ووضوحه يوم القيامة .
وإذا تأمل من له مسكة عقل تسخير أهل السماوات الأرض ، ونفوذ القضاء فيهم ، وتيقن أن لا ملك إلا لله ، ومن نتائج ملكه في ذلك اليوم جزاء كل نفس بما كسبت ، وانتفاء الظلم ، وسرعة الحساب أن حسابهم في وقت واحد لا يشغله حساب عن حساب .
قال ابن عطية : وهذه الآية نص في أن الثواب والعقاب معلق باكتساب العبد . انتهى ، وهو على طريقة الأشعرية .
وروي أن يوم القيامة لا ينتصف حتى يقيل المؤمنون في الجنة والكافرون في النار .
و ( يوم الآزفة ) : هو يوم القيامة ، يأمر تعالى نبيه أن ينذر العالم ويحذرهم منه ومن أهواله ، قاله مجاهد ، وابن زيد .
والآزفة صفة لمحذوف تقديره يوم الساعة الآزفة ، أو الطامة الآزفة ونحو هذا .
ولما اعتقب كل إنذار نوعا من الشدة والخوف وغيرهما ، حسن التكرار في الآزفة القريبة ، كما تقدم ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فإنه إذ ذاك تزيغ القلوب عن مقارها من شدة الخوف .
وقال أبو مسلم : ( يوم الآزفة ) يوم المنية وحضور الأجل ، يدل عليه أنه يعدل وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ، ويوم بروزهم ، فوجب أن يكون هذا اليوم غيره ، وهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات ، يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضا فالصفات المذكورة بعد قوله : ( يوم الآزفة ) ، لائقة بيوم حضور المنية ؛ لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب لعظم خوفه ، يكاد قلبه يبلغ حنجرته من شدة الخوف ، ولا يكون له حميم ولا شفيع يرفع عنه ما به من أنواع الخوف .
( إذ القلوب لدى الحناجر ) ، قيل : يجوز أن يكون ذلك يوم القيامة حقيقة ، ويبقون أحياء مع ذلك بخلاف حالة الدنيا ، فإن من انتقل قلبه إلى حنجرته مات ، ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ما يبلغون إليه من شدة الجزع .
كما تقول : كادت نفسي أن تخرج ، وانتصب ( كاظمين ) على الحال .
قال : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، إذا المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، ويجوز أن تكون حالا عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها ، مع بلوغها الحناجر . وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ؛ لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال : ( الزمخشري رأيتهم لي ساجدين ) . وقال : فظلت أعناقهم لها خاضعين ، ويعضده قراءة من قرأ : ( كاظمون ) .
ويجوز أن يكون حالا عن قوله أي : وأنذرهم مقدرين . وقال ابن عطية : ( كاظمين ) حال مما أبدل منه قوله تعالى : ( تشخص فيه الأبصار مهطعين ) : أراد تشخص فيه أبصارهم ، وقال الحوفي : ( القلوب ) رفع بالابتداء ، و ( لدى الحناجر ) الخبر متعلق بمعنى الاستقرار .
وقال أبو البقاء : ( كاظمين ) حال من القلوب ؛ لأن المراد أصحابها . انتهى .
( ما للظالمين من حميم ) أي : محب مشفق ، ( ولا شفيع ) ( يطاع ) في موضع الصفة لشفيع ، فاحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ ، وفي موضع رفع على الموضع واحتمل أن ينسحب النفي على الوصف فقط ، فيكون من شفيع ، ولكنه لا يطاع ، أي : [ ص: 457 ] لا تقبل شفاعته ، واحتمل أن ينسحب النفي على الموصوف وصفته أي : لا شفيع فيطاع ، وهذا هو المقصود في الآية أن الشفيع عند الله إنما يكون من أوليائه تعالى ، ولا تكون الشفاعة إلا لمن ارتضاه الله ، وأيضا فيكون في زيادة التفضل والثواب ولا يمكن شيء من هذا في حق الكافر .
وعن الحسن : والله لا يكون لهم شفيع ألبتة ، ( يعلم خائنة الأعين ) ، كقوله :
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا
أي : الناس الكرام .
وجوزوا أن تكون ( خائنة ) مصدرا ، كالعافية والعاقبة ، أي : يعلم خيانة الأعين . ولما كانت الأفعال التي يقصد بها التكتم بدنية ، فأخفاها ( خائنة الأعين ) من كسر جفن وغمز ونظر يفهم معنى ، ويريد صاحب معنى آخر وقلب ، وهو ما تحتوي عليه الضمائر ، قسم ما يتكتم به إلى هذين القسمين ، وذكر أن علمه متعلق بهما التعلق التام .
وقال : ولا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين ؛ لأن قوله : ( الزمخشري وما تخفي الصدور ) لا يساعد عليه . انتهى ، يعني أنه لا يناسب أن يكون مقابل المعنى إلا المعنى ، وتقدم أن الظاهر أن يكون التقدير الأعين الخائنة .
والظاهر أن قوله : ( يعلم خائنة الأعين ) الآية متصل بما قبله . لما أمر بإنكاره يوم الآزفة ، وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم ، وأن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ، ولا من يشفع له .
ذكر اطلاعه تعالى على جميع ما يصدر من العبد ، وأنه مجازى بما عمل ، ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله مطلع على أعماله .
وقال ابن عطية : ( يعلم خائنة الأعين ) متصل بقوله : ( سريع الحساب ) ؛ لأن سرعة حسابه للخلق إنما هي بعلمه الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ، ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون .
وقالت فرقة : ( يعلم ) متصل بقوله : ( لا يخفى على الله منهم شيء ) وهذا قول حسن ، يقويه تناسب المعنيين ، ويضعفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل . انتهى .
وقال : ( فإن قلت ) : بم اتصل قوله : يعلم خائنة الأعين ؟ ( قلت ) : هو خبر من أخبار ( هو ) في قوله : ( الزمخشري هو الذي يريكم البرق ) ، مثل : ( يلقي الروح ) ، ولكن من يلقي الروح قد علل بقوله : ( لينذر يوم التلاق ) ، ثم أسقط وتذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله : ( ولا شفيع يطاع ) ، فبعد لذلك عن إخوانه . انتهى .
وفي بعض الكتب المنزلة ، أنا مرصاد الهمم ، أنا العالم بحال الفكر وكسر العيون .
وقال مجاهد : ( خائنة الأعين ) : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز ; ومثل المفسرون ( خائنة الأعين ) بالنظر الثاني إلى حرمة غير الناظر ، وما تخفي الصدور بالنظر الأول الذي لا يمكن رفعه .
( والله يقضي بالحق ) : هذا يوجب عظيم الخوف ؛ لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال لا يقضي إلا بالحق في ما دق وجل خافه الخلق غاية .
( والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء ) : هذا قدح في أصنامهم وتهكم بهم ؛ لأن ما لا يوصف بالقدرة ، لا يقال فيه : يقضي ولا يقضي . وقرأ الجمهور : ( يدعون ) بياء الغيبة لتناسب الضمائر الغائبة قبل .
وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع : بخلاف عنه ; وهشام : ( تدعون ) بتاء الخطاب ، أي : قل لهم يا محمد .
( إن الله هو السميع البصير ) : تقرير لقوله : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) ، وعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون وتعريض بأصنامهم أنها لا تسمع ولا تبصر .
( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ) : أحال قريشا على الاعتبار بالسير ، وجاز أن يكون فينظروا مجزوما عطفا على يسيروا وأن يكون منصوبا على جواب النفي ، كما قال :
ألم تسأل فتخبرك الرسوم
وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، وحمل هم على أن يكون فصلا ولا يتعين ، إذ يجوز أن يكون هم توكيدا لضمير ( كانوا ) . الزمخشري
وقرأ الجمهور : منهم بضمير الغيبة ; وابن عامر : منكم بضمير الخطاب على سبيل الالتفات .
( وآثارا في الأرض ) : معطوف على ( قوة ) أي : مبانيهم وحصونهم وعددهم كانت في غاية الشدة .
( وتنحتون من الجبال بيوتا ) . وقال : أو أرادوا أكثر آثارا لقوله : الزمخشري
متقلدا سيفا ورمحا
[ ص: 458 ] انتهى . أي : ومعتقلا رمحا ، ولا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة المعنى بدونه .
( من واق ) أي : وما كان لهم من عذاب الله من ساتر يمنعهم منعه .
( ذلك ) أي : الأخذ ، وتقدم تفسير نظير ذلك .