بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوتهم ، وأبدى التفاضل بينهما . ولما ذكر المسببين ، ذكر سببهما ، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك ، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد .
وأتى بصيغة العزيز ، وهو الذي لا نظير له ، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء ، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به ، وأوصل سبب دعائهم بمسببه ، وهو الكفر والنار ، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير .
وبدأ أولا بجملة اسمية ، وهو الاستفهام المتضمن التعجب من حالتهم ، وختم أيضا بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار . وجاء في حقهم ( وتدعونني ) بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيدا ، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، فتؤكد . و ( ما ليس لي به علم ) هي الأوثان ، أي : لم يتعلق به علمي ، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون .
قال : ( فإن قلت ) : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ؟ . الزمخشري
( قلت ) : لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة . انتهى .
وتقدم الكلام على لا جرم .
وقال هنا ، وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، يريد لا بد ، وفعل وفعل أخوان ، كرشد ورشد ، وعدم وعدم . الزمخشري
( أنما ) أي : أن الذي ( تدعونني إليه ) أي : إلى عبادته ، ( ليس له دعوة ) ، أي : قدر وحق يجب أن يدعى إليه ، أو ليس له دعوة إلى نفسه ؛ لأن الجماد لا يدعو ، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم .
وقال : المعنى ليس له استجابة دعوة توجب الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة ، أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة ، كما سمي الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قوله : ( الزجاج كما تدين تدان ) .
وقال الكلبي : ليست له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وكان فرعون أولا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ، ثم دعاهم إلى عبادة البقر ، وكانت تعبد ما دامت شابة ، فإذا هزلت أمر بذبحها ودعا بأخرى لتعبد . فلما طال عليه الزمان قال : ( أنا ربكم الأعلى ) .
ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله وذكر أن مرد الجميع إلى الله ، أي : إلى جزائه ، ( وأن المسرفين ) : وهم المشركون [ ص: 468 ] في قول قتادة ، والسفاكون للدماء بغير حلها في قول ، ابن مسعود ومجاهد . وقيل : من غلب شره خيره هو المسرف . وقال عكرمة : هم الجبارون المتكبرون .
وختم المؤمن كلامه بخاتمة لطيفة توجب التخويف والتهديد وهي قوله : ( فستذكرون ما أقول لكم ) أي : إذا حل بكم عقاب الله .
( وأفوض أمري ) إلى قضاء الله وقدره ، لا إليكم ولا إلى أصنامكم ، وكانوا قد توعدوه .
ثم ذكر ما يوجب التفويض ، وهو كونه تعالى بصيرا بأحوال العباد وبمقادير حاجاتهم .
قال مقاتل : لما قال هذه الكلمات ، قصدوا قتله ; فهرب هذا المؤمن إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه .
وقيل : لما أظهر إيمانه ، بعث فرعون في طلبه ألف رجل ; فمنهم من أدركه ، فذب السباع عنه وأكلتهم السباع ، ومنهم من مات في الجبال عطشا ، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا ، فاتهمه وقتله وصلبه . وقيل : نجا مع موسى في البحر ، وفر في جملة من فر معه .
( فوقاه الله سيئات ما مكروا ) أي : شدائد مكرهم التي تسوؤه ، وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم .
( وحاق بآل فرعون سوء العذاب ) ، قال : هو ما حاق بالألف الذين بعثهم ابن عباس فرعون في طلب المؤمن ، من أكل السباع ، والموت بالعطش ، والقتل والصلب ، كما تقدم .
وقيل : ( سوء العذاب ) : هو الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة .
( النار ) بدل من ( سوء العذاب ) ، أو خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما سوء العذاب : قيل : النار ، أو مبتدأ خبره ( يعرضون ) ، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب ، أي : تدخلون النار يعرضون عليها .
وقال : ويجوز أن ينصب على الاختصاص . الزمخشري
والظاهر أن عرضهم على النار مخصوص بهذين الوقتين ، ويجوز أن يراد بذكر الطرفين الدوام في الدنيا ، والظاهر أن العرض خلاف الإحراق . وقال : عرضهم عليها : إحراقهم بها ، يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به . انتهى . الزمخشري
والظاهر أن العرض هو في الدنيا . وروي ذلك عن الهذيل بن شرحبيل ، وعن ، ابن مسعود والسدي : أن أرواحهم في جوف طيور سود ، تروح بهم وتغدو إلى النار . وقال رجل : رأيت طيورا بيضا تغدو من البحر ، ثم تروح بالعشي سودا مثلها ، فقال للأوزاعي : تلك التي في حواصلها أرواح الأوزاعي آل فرعون ، يحرق رياشها وتسود بالعرض على النار . وقال وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على تقدير ما بين الغدو والعشي ، إذ لا غدو ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا . محمد بن كعب
وعن : تعرض أرواح ابن مسعود آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار على النار بالغداة والعشي ، يقال : هذه داركم .
وفي صحيح ، البخاري ومسلم ، من حديث ابن عمران ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة
واستدل مجاهد ومحمد بن كعب وعكرمة ومقاتل بقوله : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) أي : عند موتهم على عذاب القبر في الدنيا . والظاهر تمام الجملة عند قوله : ( وعشيا ) ، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول ، أي : ويوم القيامة يقال لهم : ادخلوا . وقيل : و ( يوم ) معطوف على ( وعشيا ) فالعامل فيه ( يعرضون ) و ( أدخلوا ) على إضمار الفعل . وقيل : العامل في ( يوم ) ( أدخلوا ) . وقرأ ، الأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، ، والأعمش وابن وثاب ، وطلحة ، ونافع ، وحمزة ، ، والكسائي وحفص : ( أدخلوا ) ، أمرا للخزنة من أدخل .
وعلي ، والحسن ، وقتادة ، وابن كثير ، والعربيان ، وأبو بكر : أمرا من دخل ( آل فرعون أشد العذاب ) . قيل : وهو الهاوية . قال : بلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف . الأوزاعي
( وإذ يتحاجون في النار ) : الظاهر أن الضمير عائد على فرعون . وقال [ ص: 469 ] ابن عطية : والضمير في قوله : ( يتحاجون ) لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون ، والعامل في ( إذ ) فعل مضمر تقديره واذكروا .
وقال : وإذ هذه عطف على قوله : ( الطبري إذ القلوب لدى الحناجر ) ، وهذا بعيد . انتهى .
والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة . والضعفاء أي : في القدر والمنزلة في الدنيا . والذين استكبروا أي : عن الإيمان واتباع الرسل .
( إنا كنا لكم تبعا ) أي : ذوي تبع ، فتبع مصدر أو اسم جمع لتابع ، كآيم وأيم ، وخادم وخدم ، وغائب وغيب .
( فهل أنتم مغنون عنا ) أي : حاملون عنا ؟ فأجابوهم : ( إنا كل فيها ) ، وأن حكم الله قد نفذ فينا وفيكم ، إنا مستمرون في النار .
وقرأ ابن السميقع ، وعيسى بن عمران : ( كلا ) بنصب ( كل ) . وقال ، الزمخشري وابن عطية : على التوكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا فيها . انتهى .
وخبر إن هو فيها ، ومن رفع ( كلا ) فعلى الابتداء ، وخبره فيها ، والجملة خبر إن . وقال ابن مالك في تصنيفه ( تسهيل الفوائد ) : وقد تكلم على ( كل ) ولا يستغنى بنية إضافته ، خلافا للفراء . انتهى ، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين ، وقد رد والزمخشري ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه ( التسهيل ) .
وقال : ( فإن قلت ) : هل يجوز أن يكون ( كلا ) حالا قد عمل ( فيها ) فيها ؟ ( قلت ) : لا ؛ لأن الظرف لا يعمل ، والحال متقدمة ، كما يعمل في الظرف متقدما ، تقول : كل يوم لك ثوب ، ولا تقول : قائما في الدار زيد . انتهى . الزمخشري
وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال ، نحو : زيد قائما في الدار ، وزيد قائما عندك ، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقا في الآية ؛ لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم ، وهو اسم إن ، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال ، وتأخر العامل فيها ، وأما تمثيله بقوله : ولا تقول : قائما في الدار زيد ، تأخر فيه المسند والمسند إليه ، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة .
وقال ابن مالك : والقول المرضي عندي أن كلا في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في ( فيها ) وفيها هو العامل ، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه ، كما قدمت في قراءة من قرأ : ( والسماوات مطويات بيمينه ) . وفي قول النابغة الذبياني :
رهط ابن كوز محقبي أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار
وقال بعض الطائيين :
دعا فأجبنا وهو بادي ذلة لديكم فكان النصر غير قريب
انتهى . وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش ، كما ذكرناه ، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن ( كلا ) بدل من اسم إن ؛ لأن ( كلا ) يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك ، فكأنه قال : إن كلا بدل من اسم إن ؛ لأن كلا فيها ، وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل ، مع أنهما لا يليان العوامل ، فإن يدعى في ( كل ) البدل أولى ، وأيضا فتنكير ( كل ) ونصبه حالا في غاية الشذوذ ، والمشهور [ ص: 470 ] أن كلا معرفة إذا قطعت عن الإضافة . حكي : مررت بكل قائما ، وببعض جالسا في الفصيح الكثير في كلامهم ، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم : مررت بهم كلا ، أي : جميعا .
( فإن قلت ) : كيف يجعله بدلا ، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ؟ .
( قلت ) : مذهب الأخفش والكوفيين جوازه ، وهو الصحيح ، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف ، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة ، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب ، لا نعلم خلافا في ذلك ، كقوله تعالى : ( تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا ) ، وكقولك : مررت بكم صغيركم وكبيركم ، معناه : مررت بكم كلكم ، وتكون لنا عيدا كلنا . فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة ، فجوازه فيما دل على الإحاطة ، وهو ( كل ) أولى ، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه ؛ لأنه بدل من ضمير المتكلم ؛ لأنه لم يتحقق مناط الخلاف .
ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعا : ( لخزنة جهنم ) ، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة ، ولم يأت ضميرا ، فكان يكون التركيب لخزنتها ، لما في ذكر جهنم من التهويل ، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم . ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار ، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف ، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير : ( أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ) ، فأجابوا بأنهم أتتهم ، ( قالوا ) أي : الخزنة ، ( فادعوا ) أنتم على معنى الهزء بهم ، أو فادعوا أنتم ، فإنا لا نجترئ على ذلك . والظاهر أن قوله : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) من كلام الخزنة أي : دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي . وقيل : هو من كلام الله تعالى إخبارا منه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - .
وجاءت هذه الأخبار معبرا عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها .
ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم ، كما فعل بموسى - عليه السلام - حيث أهلك عدوه فرعون وقومه ، وفيه تبشير للرسول - عليه السلام - بنصره على قومه ، ( في الحياة الدنيا ) ، العاقبة الحسنة لهم ، ( ويوم يقوم الأشهاد ) : وهو يوم القيامة .
قال : ينصرهم بالغلبة ، وفي الآخرة بالعذاب . وقال ابن عباس : بالانتقام من أعدائهم . وقال السدي أبو العالية : بإفلاح حجتهم . وقال أيضا : ما قتل قوم قط نبيا أو قوما من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا . انتهى . السدي
ألا ترى إلى قتلة الحسين - رضي الله عنه - كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحدا واحدا حتى قتلهم ؟ وبختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيى بن زكريا ، عليهما السلام ؟ وقيل : والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمته ، كنوح وموسى ومحمد عليهم السلام ؛ لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه ، كيحيى ، ومن لم ينصر عليهم . وقال : الخبر عام ، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد إما في حياة الرسول المنصور ، السدي كنوح وموسى - عليهما السلام - وإما بعد موته . ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيى - عليه السلام - من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيى - عليه السلام - ؟ وقرأ الجمهور : ( يقوم ) بالياء ; وابن هرمز ، وإسماعيل ، والمنقري عن أبي عمرو : بتاء التأنيث . الجماعة . والأشهاد ، جمع شهيد ، كشريف وأشراف ، أو جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، كما قال تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) . وقال : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ، والظاهر أنه من الشهادة . وقيل : من المشاهدة ، بمعنى الحضور .
( يوم لا ينفع ) : بدل من ( يوم ) ( يقوم ) . وقرئ : ( تنفع ) بالتاء وبالياء ، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم ، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم ، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل .
( ولهم اللعنة ) والإبعاد من الله .
( ولهم سوء الدار ) : سوء عاقبة الدار .