لما ذكر تعالى ( من عمل صالحا ) الآية ، كان في ذلك [ ص: 504 ] دلالة على الجزاء يوم القيامة ، وكأن سائلا قال : ومتى ذلك ؟ فقيل : لا يعلمها إلا الله ، ومن سئل عنها فليس عنده علم بتعين وقتها ، وإنما يرد ذلك إلى الله .
ثم ذكر سعة علمه وتعلقه بما لا يعلمه إلا هو تعالى .
وقرأ أبو جعفر ، ، والأعرج وشيبة ، وقتادة ، والحسن بخلاف عنه ; ونافع ، وابن عامر ، في غير رواية أي : جلية ; والمفضل ، وحفص ، وابن مقسم : ( من ثمرات ) على الجمع . وقرأ باقي السبعة ، والحسن في رواية طلحة : بالإفراد . والأعمش
ولما كان ما يخرج من أكمام الشجرة وما تحمل الإناث وتضعه هو إيجاد أشياء بعد العدم ، ناسب أن يذكر مع علم الساعة ، إذ في ذلك دليل على البعث ، إذ هو إعادة بعد إعدام ، وناسب ذكر أحوال المشركين في ذلك اليوم ، وسؤالهم سؤال التوبيخ فقال : ( ويوم يناديهم أين شركائي ) أي : الذين نسبتموهم إلي وزعمتم أنهم شركاء لي ، وفي ذلك تهكم بهم وتقريع .
والضمير في ( يناديهم ) عام في كل من عبد غير الله ، فيندرج فيه عباد الأوثان .
( قالوا آذناك ) أي : أعلمناك ، قال الشاعر :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
وقال : أسمعناك ، كأنه استبعد الإعلام لله ؛ لأن أهل القيامة يعلمون أن الله يعلم الأشياء علما واجبا ، فالإعلام في حقه محال . والظاهر أن الضمير في ( قالوا ) عائد على المنادين ؛ لأنهم المحدث معهم . ابن عباس
( ما منا ) أحد اليوم ، وقد أبصرنا وسمعنا . يشهد أن لك شريكا ، بل نحن موحدون لك ، وما منا أحد يشاهدهم ؛ لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم ، لا يبصرونها في ساعة التوبيخ . وقيل : الضمير في ( قالوا ) عائد على الشركاء ، أي : قالت الشركاء : ما منا من شهيد بما أضافوا إلينا من الشرك ، و ( آذناك ) معلق ؛ لأنه بمعنى الإعلام . والجملة من قوله : ( ما منا من شهيد ) في موضع المفعول . وفي تعليق باب أعلم رأينا خلافه ، والصحيح أنه مسموع من كلام العرب . والظاهر أن قولهم : ( آذناك ) إنشاء ، كقولك : أقسمت لأضربن زيدا ، وإن كان إخبارا سابقا ، فتكون إعادة السؤال توبيخا لهم .
( وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل ) أي : نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ويدعون من الآلهة ، أو ( وضل عنهم ) أي : تلفت أصنامهم وتلاشت ، فلم يجدوا منها نصرا ولا شفاعة ، ( وظنوا ) أي : أيقنوا . قال : ( السدي ما لهم من محيص ) أي : من حيدة ورواغ من العذاب .
والظاهر أن ( ظنوا ) معلقة ، والجملة المنفية في موضع مفعولي ( ظنوا ) .
وقيل : تم الكلام عند قوله : ( وظنوا ) ، أي : وترجح عندهم أن قولهم : ( ما منا من شهيد ) منجاة لهم ، أو أمر يموهون به . والجملة بعد ذلك مستأنفة ، أي : يكون لهم منجا ، أو موضع روغان .
( لا يسأم الإنسان من دعاء الخير ) : هذه الآيات نزلت في كفار قيل : في الوليد بن المغيرة ; وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وكثير من المسلمين يتصفون بوصف أولها من دعاء الخير ، أي : من طلب السعة والنعمة و ( دعاء ) مصدر مضاف للمفعول . وقرأ عبد الله : ( من دعاء بالخير ) ، بباء داخلة على الخير ، وفاعل المصدر محذوف تقديره : من دعاء للخير ، وهو وإن مسه الشر ، أي : الفقر والضيق ، ( فيئوس ) أي : فهو يئوس قنوط ، وأتى بهما صيغتي مبالغة . واليأس من صفة القلب ، وهو أن يقطع رجاءه من الخير ; والقنوط : أن يظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر . وبدأ بصيغة القلب ؛ لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الانكسار .
( ولئن أذقناه رحمة منا ) : سمى النعمة رحمة ، إذ هي من آثار رحمة الله .
( من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ) أي : بسعيي واجتهادي ، ولا يراها أنها من الله ، أو هذا لي لا يزول عني .
( وما أظن الساعة قائمة ) أي : ظننا أننا لا نبعث ، وأن ما جاءت به الرسل من ذلك ليس بواقع ، كما قال تعالى حكاية عنهم : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ) .
( ولئن رجعت إلى ربي ) : ولئن كان كما أخبرت الرسل ، ( إن لي عنده ) أي : عند الله ، ( للحسنى ) : أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، كما أنعم علي في الدنيا ، وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم ( لي عنده ) على اسم إن ، وتدخل لام التأكيد [ ص: 505 ] عليه أيضا ، وبصيغة الحسنى يؤنث الأحسن الذي هو أفعل التفضيل . ولم يقولوا : ( للحسنة ) أي الحالة الحسنة . وقال - رضي الله عنهم - : للكافر أمنيتان ، أما في الدنيا فهذه ( الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب إن لي عنده للحسنى ) ، وأما في الآخرة فـ ( ياليتني كنت ترابا ) .
( فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ) من الأفعال السيئة ، وذلك كناية عن جزائهم بأعمالهم السيئة .
( ولنذيقنهم من عذاب غليظ ) في مقابلة ( إن لي عنده ) . وكنى بغليظ العذاب عن شدته . ( وإذا أنعمنا ) : تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في ( سبحان ) ، إلا أن في أواخر تلك ( كان يئوسا ) وآخر هذه ( فذو دعاء عريض ) : أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره .
والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة . يقال : أطال فلان في الظلم ، وأعرض في الدعاء إذا كثر ، أي فذو تضرع واستغاثة .
وذكر تعالى في هذه الآية نوعا من طغيان الإنسان ، إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة ، وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله وتضرع .
( قل أرأيتم إن كان ) أي : القرآن ، ( من عند الله ) : أبرزه في صورة الاحتمال ، وهو من عند الله بلا شك ، ولكنه تنزل معهم في الخطاب . والضمير في ( أرأيتم ) لكفار قريش . وتقدم أن معنى أرأيتم : أخبروني عن حالكم ( إن كان ) هذا القرآن ( من عند الله ) ، وكفرتم به وشاققتم في اتباعه .
من أضل منكم ، إذ أنتم المشاقون فيه والمعرضون عنه والمستهزئون بآيات الله .
وتقدم أن ( أرأيتم ) هذه تتعدى إلى مفعول مذكور ، أو محذوف ، وإلى ثان الغالب فيه أن يكون جملة استفهامية .
فالمفعول الأول محذوف تقديره : أرأيتم أنفسكم ، والثاني هو جملة الاستفهام ، إذ معناه : من أضل منكم أيها الكفار ، إذ مآلكم إلى الهلاك في الدنيا والآخرة .
ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال : ( سنريهم آياتنا في الآفاق ) .
قال أبو المنهال ، والسدي ، وجماعة : هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة ، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر .
( وفي أنفسهم ) : أراد به فتح مكة ، وتضمن ذلك الإخبار بالغيب ، ووقع كما أخبر .
وقال الضحاك ، وقتادة : ( في الآفاق ) : ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما ، ( وفي أنفسهم ) : يوم بدر .
وقال عطاء ، وابن زيد : في آفاق السماء ، وأراد الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك ، ( وفي أنفسهم ) عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك .
ونبهوا بهذين القولين عن لفظ سنريهم ؛ لأن هلاك الأمم المكذبة قديما ، وآيات الشمس والقمر وغير ذلك ، قد كان ذلك كله مريبا لهم ، فالقول الأول أرجح .
وأخذ هذا القول وذيله فقال : يعني ما يسر الله - عز وجل - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللخلفاء من بعده ، وأنصار دينه في آفاق الدنيا ، وبلاد المشرق والمغرب عموما ، وفي ناحية العرب خصوصا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلق الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة ، وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعافهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادة ، ونشر دعوة الإسلام في الأقطار المعمورة ، وبسط دولته في أقاصيها . الزمخشري
والاستقراء يطلعك في التواريخ والكتب المدونة في مشاهد أهله وأيامهم على عجائب ، لا ترى وقعة من وقائعهم إلا علما من أعلام الله ، وآية من آياته تقوى معها النفس ، ويزداد بها الإيمان ، ويتبين أن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يحيد عنه إلا مكابر خبيث مغالط نفسه . انتهى ما كتبناه مقتصرا عليه .
( حتى يتبين لهم أنه ) أي : القرآن ، وما تضمنه من الشرع هو الحق ، إذ وقع وفق ما أخبر به من الغيب ، و ( بربك ) : الباء زائدة ، التقدير : أولم يكفك أو يكفهم ربك ، و ( أنه على كل شيء شهيد ) بدل من ( ربك ) .
أما حالة كونه مجرورا بالباء ، فيكون بدلا على اللفظ . وأما حالة مراعاة الموضع ، فيكون بدلا على الموضع ، وقيل : إنه على إضمار الحرف أي : أولم يكف ربك بشهادته ، فحذف الحرف ، وموضع [ ص: 506 ] أن على الخلاف ، أهو في موضع نصب أو في موضع جر ؟ ويبعد قول من جعل ( بربك ) في موضع نصب ، وفاعل كفى إن وما بعدها ، والتقدير عنده : أولم يكف ربك بشهادته ؟ وقرئ : إن بكسر الهمزة على إضمار القول ، و ( ألا ) استفتاح تنبه السامع على ما يقال . وقرأ السلمي والحسن : في ( مرية ) بضم الميم ، وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلا ، فهو يجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم .