وفي صحيح عن البخاري : ابن عباس أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعالج من التنزيل شدة ، وكان ربما يحرك شفتيه مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه ، فنزلت . وقال الضحاك : السبب أنه كان - عليه الصلاة والسلام - كان يخاف أن ينسى القرآن ، فكان يدرسه حتى غلب ذلك عليه وشق ، فنزلت . وقال : كان لحرصه - عليه الصلاة والسلام - على أداء الرسالة والاجتهاد في عبادة الله ، ربما أراد النطق ببعض ما أوحي إليه قبل كمال إيراد الوحي ، فأمر أن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه ، وجاءت هذه الآية في هذا المعنى . والضمير في " به " للقرآن دل عليه مساق الآية . ( الشعبي إن علينا جمعه ) أي : في صدرك ( وقرآنه ) أي : قراءتك إياه ، والقرآن مصدر كالقراءة ، قال الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وقيل : ( وقرآنه ) وتأليفه في صدرك ، فهو مصدر من قرأت أي : جمعت ، ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد : ما قرأت سلاقط ، وقال الشاعر :
ذراعي بكرة أدماء بكر هجان اللون لم تقرأ جنينا
( فإذا قرأناه ) أي : الملك المبلغ عنا ( فاتبع ) أي : بذهنك وفكرك ، أي : فاستمع قراءته ، قاله . وقال أيضا هو و ابن عباس قتادة والضحاك : فاتبع في الأوامر والنواهي . وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ أبو العالية : فإذا قرته فاتبع قرته ، بفتح القاف والراء والتاء ، من غير همز ولا ألف في الثلاثة ، ولم يتكلم على توجيه هذه القراءة الشاذة ، ووجه اللفظ الأول أنه مصدر ، أي : إن علينا جمعه وقراءته ، فنقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة وحذفها ، فبقي قرته كما ترى . وأما الثاني فإنه فعل ماض أصله فإذا قرأته ، أي : أردت قراءته . [ ص: 388 ] فسكن الهمزة فصار قرأته ، ثم حذف الألف على جهة الشذوذ ، كما حذفت في قول العرب : ولو تر ما الصبيان ، يريدون : ولو ترى ما الصبيان ، وما زائدة . وأما اللفظ الثالث فتوجيهه توجيه اللفظ الأول ، أي : فإذا قرأته ، أي : أردت قراءته ، فاتبع قراءته بالدرس أو بالعمل . ( ثم إن علينا بيانه ) قال قتادة وجماعة : أن نبينه لك ونحفظكه . وقيل : أن تبينه أنت . وقال قتادة أيضا : أن نبين حلاله وحرامه ومجمله ومفسره .
وفي التحرير والتحبير قال : ( ابن عباس إن علينا جمعه ) أي : حفظه في حياتك ، وقراءته : تأليفه على لسانك . وقال الضحاك : نثبته في قلبك بعد جمعه لك . وقيل : جمعه بإعادة جبريل عليك مرة أخرى إلى أن يثبت في صدرك . ( فإذا قرأناه ) قال : أنزلناه إليك ، فاستمع قراءته ، وعنه أيضا : فإذا يتلى عليك فاتبع ما فيه . وقال ابن عباس قتادة : فاتبع حلاله واجتنب حرامه . وقد نمق بحسن إيراده تفسير هذه الآية ، فقال : الزمخشري كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لقن الوحي ، نازع جبريل القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه وسمعه حتى يقضى إليه وحيه ، ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ . ( لتعجل به ) : لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك ، ثم علل النهي عن العجلة بقوله : ( إن علينا جمعه ) في صدرك وإثبات قراءته في لسانك . ( فإذا قرأناه ) : جعل قراءة جبريل قراءته ، والقرآن القراءة ، فاتبع قراءته : فكن مقفيا له فيه ولا تراسله ، وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه . ( ثم إن علينا بيانه ) : إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا ، كما ترى بعض الحراص على العلم ونحوه ، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . انتهى .
وذكر أبو عبد الله الرازي في تفسيره : أن جماعة من قدماء الروافض زعموا أن القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص منه ، وأنهم احتجوا بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، ولو كان التركيب من الله تعالى ما كان الأمر كذلك . ثم ذكر الرازي مناسبات على زعمه يوقف عليها في كتابه ، ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها ، أنه تعالى لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته ، وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ، ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها ، وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله ومن يرغب عنها . وبضدها تتميز الأشياء . ولما كان - عليه الصلاة والسلام - لمثابرته على ذلك ، كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه . كلا بل يحبون العاجلة ويذرون الآخرة . لما فرغ من خطابه - عليه الصلاة والسلام - رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المنكر البعث ، وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة ، إذ هو منكر لذلك . وقرأ الجمهور : ( بل تحبون العاجلة وتذرون ) بتاء الخطاب ، لكفار قريش المنكرين البعث ، و ( كلا ) : رد عليهم وعلى أقوالهم ، أي : ليس كما زعمتم ، وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حتى تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها . وقال : ( كلا ) ردع ، وذكر في كتابه ما يوقف عليه فيه . وقرأ الزمخشري مجاهد والحسن وقتادة ، و الجحدري وابن كثير وأبو عمرو : بياء الغيبة فيهما . ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة ، تخلص إلى شيء من أحوال الآخرة ، فقال : ( وجوه يومئذ ناضرة ) وعبر بالوجه عن الجملة . وقرأ الجمهور : ( ناضرة ) بألف ، و : ( نضرة ) بغير ألف . وقرأ زيد بن علي ابن عطية : ( وجوه ) رفع بالابتداء ، وابتدأ بالنكرة ; لأنها تخصصت بقوله : ( يومئذ ) و ( ناضرة ) خبر ( وجوه ) . وقوله : ( إلى ربها ناظرة ) جملة هي في موضع خبر بعد [ ص: 389 ] خبر . انتهى . وليس ( يومئذ ) تخصيصا للنكرة ، فيسوغ الابتداء بها ; لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ، إنما يكون ( يومئذ ) معمول لـ ( ناضرة ) . وسوغ جواز الابتداء بالنكرة كون الموضع موضع تفصيل ، و ( ناضرة ) الخبر ، و ( ناظرة ) صفة . وقيل : ( ناضرة ) نعت لـ ( وجوه ) و ( إلى ربها ناظرة ) الخبر ، وهو قول سائغ . ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في أصول الدين ودلائل الفريقين ، أهل السنة وأهل الاعتزال ، فلا نطيل بذكر ذلك هنا . ولما كان من الزمخشري المعتزلة ، ومذهبه أن تقديم المفعول يدل على الاختصاص ، قال هنا : ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر في محشر يجمع الله فيه الخلائق ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال ، فوجب حمله على معنى لا يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، يريد معنى التوقع والرجاء ، ومنه قول القائل :
وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماء
وسمعت سروية مستجدية بـ مكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه . انتهى . وقال ابن عطية : ذهبوا ، يعني المعتزلة ، إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة ، أو إلى ثوابه أو ملكه ، فقدروا مضافا محذوفا ، وهذا وجه سائغ في العربية . كما تقول : فلان ناظر إليك في كذا أي : إلى صنعك في كذا . انتهى . والظاهر أن " إلى " في قوله : ( إلى ربها ) حرف جر يتعلق بـ ( ناظرة ) . وقال بعض المعتزلة : " إلى " هنا واحد الآلاء ، وهي النعم ، وهي مفعول به معمول لـ ( ناظرة ) بمعنى منتظرة . ( ووجوه يومئذ باسرة ) : يجوز أن يكون ( وجوه ) مبتدأ خبره ( باسرة ) وتظن خبر بعد خبر وأن تكون ( باسرة ) صفة وتظن الخبر . والفاقرة قال قاصمة الظهر ، و ( ابن المسيب تظن ) بمعنى توقن أو يغلب على اعتقادها وتتوقع ( أن يفعل بها فاقرة ) : فعل هو في شدة داهية تقصم . وقال أبو عبيدة : " فاقرة " من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار . ( كلا ) : ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، وتذكير لهم بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده ، وينتقل منها إلى الآجلة ، والضمير في ( بلغت ) عائد إلى النفس الدال عليها سياق الكلام ، كقول حاتم :
لعمرك ! ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون جاء المطر ، ولا نكاد نسمعهم يقولون السماء . وذكرهم تعالى بصعوبة الموت ، وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها . وقيل : مبني للمفعول ، فاحتمل أن يكون القائل حاضرا والمريض طلبوا له من يرقي ويطب ويشفي ، وغير ذلك مما يتمناه له أهله ، قاله ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ، وهو استفهام حقيقة . وقيل : هو استفهام إبعاد وإنكار ، أي : قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه ، كما عند الناس : من ذا الذي يقدر أن يرقي هذا المشرف على الموت ، قاله عكرمة وابن زيد . واحتمل أن يكون القائل الملائكة ، أي : من يرقى بروحه إلى السماء ؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ قاله أيضا ابن عباس . وقيل : إنما يقولون ذلك لكراهتهم الصعود بروح الكافر لخبثها ونتنها ، ويدل عليه قوله بعد : ( وسليمان التيمي فلا صدق ولا صلى ) الآية . ووقف حفص على ( من ) وابتدأ ( راق ) وأدغم الجمهور . قال أبو علي : لا أدري ما وجه قراءته . وكذلك قرأ : ( بل ران ) . انتهى . وكان حفص قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة ، فسكت سكتا لطيفا ليشعر أنهما كلمتان . وقال : إن النون تدغم في الراء ، وذلك نحو من راشد . والإدغام بغنة وبغير غنة ، ولم يذكر البيان . ولعل [ ص: 390 ] ذلك من نقل غيره من الكوفيين ، و سيبويه عاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو . وأما ( بل ران ) فقد ذكر أن اللام البيان فيها ، والإدغام مع الراء حسنان ، فلما أفرط في شأن البيان في ( سيبويه بل ران ) صار كالوقف القليل . ( وظن ) أي : المريض ( أنه ) أي : ما نزل به ( الفراق ) : فراق الدنيا التي هي محبوبته ، والظن هنا على بابه . وقيل : فراق الروح الجسد .