(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213nindex.php?page=treesubj&link=28973وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ) ، الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ما عاد عليه في : فيه الأولى ، وقد تقدم أنها عائدة على ما ، وشرح ما المعني بما ، أهو الدين ، أم
محمد - صلى الله عليه وسلم ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟ والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأتوه عائد أيضا على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : الضمير
[ ص: 137 ] في : فيه الثانية يجوز أن يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : وما اختلف في النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه :
اليهود . وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على
عيسى - صلى الله على نبينا وعليه . وقال
مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين . انتهى . والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه ، وفيه الأولى ، والثانية يعود على : ما الموصولة في قوله : فيما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه ، مفهومه : كل شيء اختلفوا فيه ، فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب ؛ إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : ( ليحكم ) . والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيها منه على شناعة فعلهم ، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ؛ ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف ، فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبها على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة ، والبينات : التوراة والإنجيل ؛ فالذين أوتوه هم
اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ؛ فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة
محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين أوتوه هم
اليهود ، أو معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين أوتوه جميع الأمم ، أو
محمد - صلى الله عليه وسلم - والذين أوتوه من بعث إليهم . والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سببا لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ؛ حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه .
ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجب ولا داع إلا مجرد البغي والظلم والتعدي . وانتصاب " بغيا " على أنه مفعول من أجله ، و " بينهم " في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائنا بينهم ، وأبعد من قال إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ؛ وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النبوة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة ، فيها أقوال : فالأولان يختصان بمن يحضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب وغيرهم ، والثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ؛ ولذلك قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ، والاختلاف الثاني المعني به ازدياد الاختلاف ، أو ديمومة الاختلاف - إذا فسرنا أوتوه بأوتوا الكتاب - فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ، وقيل : بجحود ما فيه ، وقيل : بتحريفه .
وفي قوله " بغيا " إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزول به الاختلاف الذي كان قبله . وفي قوله : " البينات " دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق ، لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا ، وإلا الذين أوتوه : استثناء مفرغ ، وهو فاعل اختلف ، ومن بعد ما جاءهم ، متعلق باختلف ، وبغيا منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلا من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلا يوم الجمعة . انتهى كلامه . وهذا فيه نظر ؛ وذلك أن المعنى على الاستثناء المفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ؛ إذ المعنى : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جاءتهم البينات إلا بغيا بينهم . فكل واحد من الثلاثة محصور ، وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها
[ ص: 138 ] شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلا ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ؛ ولذلك تأولوا قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44بالبينات والزبر ) ، على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقا بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلا ، قد استثني بها شيئان : أحدهما رجالا ، والآخر بالبينات ، من غير عطف . وقد منع
أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلا زيد درهما ، وما ضرب القوم إلا بعضهم بعضا ، واختلفا في تصحيحها ، فصححها
أبو الحسن بأن يقدم على المرفوع الذي بعدها فيقول : ما أخذ أحد زيد إلا درهما ، فيكون زيد بدلا من أحد ، ويكون إلا قد استثني بها شيء واحد ، وهو الدرهم ، ويكون إلا درهما استثناء مفرغا من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئا إلا درهما . وتصحيحها عند
أبي علي بأن يزيد فيها منصوبا قبل إلا فيقول : ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما ، و : ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا ؛ فيكون المرفوع بدلا من المرفوع ، والمنصوب بدلا من المنصوب ، هكذا خرجه بعضهم .
قال
ابن السراج : أعطيت الناس درهما إلا عمرا ، جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهما إلا عمرا الدنانيرا ، لأن الحرف لا يستثنى به إلا واحد ، فإن قلت : ما أعطيت الناس درهما إلا عمرا دانقا ، على الاستثناء لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمرا من الناس ، ودانقا من درهم ، كأنك قلت : ما أعطيت إلا عمرا دانقا . ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين . قال بعض أصحابنا : ما قاله
ابن السراج فيه ضعف ؛ لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلا ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلا بدلان . انتهى كلامه .
وأجاز قوم أن يقع بعد إلا مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ؛ لأن إلا هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلا لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي كواو مع ، وكالهمزة التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدى واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلا بحرف عطف ، فكذلك إلا ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغيا ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغيا بينهم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213nindex.php?page=treesubj&link=28973وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ، الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ، يَعُودُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي : فِيهِ الْأُولَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى مَا ، وَشَرْحُ مَا الْمَعْنِيُّ بِمَا ، أَهُوَ الدِّينُ ، أَمْ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَمْ دِينُهُ ؟ أَمْ هُمَا ؟ أَمْ كِتَابُهُ ؟ وَالضَّمِيرُ فِي : أُوتُوهُ ، عَائِدٌ إِذْ ذَاكَ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي : فِيهِ ، وَقِيلَ : الضَّمِيرُ فِي : فِيهِ ، عَائِدٌ عَلَى الْكِتَابِ ، وَأُتُوهُ عَائِدٌ أَيْضًا عَلَى الْكِتَابِ ، التَّقْدِيرُ : وَمَا اخْتَلَفَ فِي الْكِتَابِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ، أَيْ : أُوتُوا الْكِتَابَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ : الضَّمِيرُ
[ ص: 137 ] فِي : فِيهِ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ : وَمَا اخْتَلَفَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ ، أَيْ : أُوتُوا عِلْمَ نُبُوَّتِهِ ، فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْبَغْيِ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكِتَابُ : التَّوْرَاةُ ، وَالَّذِينَ أُوتُوهُ :
الْيَهُودُ . وَقِيلَ : الضَّمِيرُ فِي : فِيهِ ، عَائِدٌ عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَقِيلَ : يَعُودُ الضَّمِيرُ فِي : فِيهِ ، عَلَى
عِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ . وَقَالَ
مُقَاتِلٌ : الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الدِّينِ ، أَيْ : وَمَا اخْتَلَفَ فِي الدِّينِ . انْتَهَى . وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَحُسْنِ التَّرْكِيبِ أَنَّ الضَّمَائِرَ كُلَّهَا فِي : أُوتُوهُ ، وَفِيهِ الْأُولَى ، وَالثَّانِيَةُ يَعُودُ عَلَى : مَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ : فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَأَنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، مَفْهُومُهُ : كُلُّ شَيْءٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ ، بَيَّنَهُ بِمَا نَزَلَ فِي الْكِتَابِ ، أَوْ إِلَى الْكِتَابِ ؛ إِذْ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ ، أَوْ إِلَى النَّبِيِّ يُوَضِّحُهُ بِالْكِتَابِ عَلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي سَبَقَتْ فِي الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ : ( لِيَحْكُمَ ) . وَالَّذِينَ أُوتُوهُ أَرْبَابُ الْعِلْمِ بِهِ وَالدِّرَاسَةِ لَهُ ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَى شَنَاعَةِ فِعْلِهِمْ ، وَقَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الِاخْتِلَافِ ؛ وَلِأَنَّ غَيْرَهُمْ تَبَعٌ لَهُمْ فِي الِاخْتِلَافِ ، فَهُمْ أَصْلُ الشَّرِّ ، وَأَتَى بِلَفْظِ : مِنْ ، الدَّالَّةِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُنَبَّهًا عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ زَمَانِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ ، لَمْ يَقَعْ مِنْهُمُ اتِّفَاقٌ عَلَى شَيْءٍ بَعْدَ الْمَجِيءِ ، بَلْ بِنَفْسِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ اخْتَلَفُوا ، لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ ، وَالْبَيِّنَاتُ : التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ ؛ فَالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، أَوْ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ ؛ فَالَّذِينَ أُوتُوهُ عُلَمَاءُ كُلِّ مِلَّةٍ ، أَوْ مَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ صِفَةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ أُوتُوهُ هُمُ
الْيَهُودُ ، أَوْ مُعْجِزَاتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ أُوتُوهُ جَمِيعُ الْأُمَمِ ، أَوْ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ أُوتُوهُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ . وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ هِيَ مَا أَوْضَحَتْهُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَى أَنْبِيَاءِ الْأُمَمِ الْمُوجِبَةِ الِاتِّفَاقَ وَعَدَمَ الِاخْتِلَافِ ، فَجَعَلُوا مَجِيءَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ سَبَبًا لِاخْتِلَافِهِمْ ، وَذَلِكَ أَشْنَعُ عَلَيْهِمْ ؛ حَيْثُ رَتَّبُوا عَلَى الشَّيْءِ خِلَافَ مُقْتَضَاهُ .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الَّذِي كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَيْسَ لِمُوجِبٍ وَلَا دَاعٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَالتَّعَدِّي . وَانْتِصَابُ " بَغْيًا " عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ، وَ " بَيْنَهُمْ " فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَهُ ، فَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ ، أَيْ : كَائِنًا بَيْنَهُمْ ، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ، أَيْ : بَاغِينَ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْحَامِلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ هُوَ الْبَغْيُ ؛ وَسَبَبُ هَذَا الْبَغْيِ حَسَدُهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النُّبُوَّةِ ، أَوْ كَتْمُهُمْ صِفَتَهُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، أَوْ طَلَبُهُمُ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ ، فِيهَا أَقْوَالٌ : فَالْأَوَّلَانِ يَخْتَصَّانِ بِمَنْ يَحْضُرُهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ، وَالثَّالِثُ : يَكُونُ لِسَائِرِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفِينَ ، وَإِنْزَالُ الْكُتُبِ كَانَ بَعْدَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=213لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) ، وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي الْمَعْنِيُّ بِهِ ازْدِيَادُ الِاخْتِلَافِ ، أَوْ دَيْمُومَةُ الِاخْتِلَافِ - إِذَا فَسَّرْنَا أُوتُوهُ بِأُوتُوا الْكِتَابَ - فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَكُونُ بَعْدَ إِيتَاءِ الْكِتَابِ ، وَقِيلَ : بِجُحُودِ مَا فِيهِ ، وَقِيلَ : بِتَحْرِيفِهِ .
وَفِي قَوْلِهِ " بَغْيًا " إِشَارَةٌ إِلَى حَصْرِ الْعِلَّةِ ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ إِنْزَالِ الْكِتَابِ كَانَ لِيَزُولَ بِهِ الِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ . وَفِي قَوْلِهِ : " الْبَيِّنَاتُ " دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ فِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ ، وَالدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ الَّتِي جَاءَتْ فِي الْكِتَابِ قَدْ حَصَلَا ، وَلَا عُذْرَ فِي الْعُدُولِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَقِّ ، لَكِنْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ مَا رُكِّبَ فِيهِمْ مِنَ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِيثَارِ بِالدُّنْيَا ، وَإِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ : اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ ، وَهُوَ فَاعِلُ اخْتَلَفَ ، وَمِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ ، مُتَعَلِّقٌ بِاخْتَلَفَ ، وَبَغْيًا مَنْصُوبٌ بِاخْتَلَفَ ، هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ ، قَالَ : وَلَا يُمْنَعُ إِلَّا مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا تَقُولُ : مَا قَامَ زَيْدٌ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ فِي الْفَاعِلِ ، وَفِي الْمَجْرُورِ ، وَفِي الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ ؛ إِذِ الْمَعْنَى : وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ إِلَّا بَغْيًا بَيْنَهُمْ . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ مَحْصُورٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَتْ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مُسْتَثْنَى بِهَا
[ ص: 138 ] شَيْئَانِ دُونَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا جَازَ مَعَ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يَنْوِي بَعْدَهَا إِلَّا ، فَصَارَتْ كَالْمَلْفُوظِ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَ مَا يُوهِمُ ذَلِكَ جُعِلَ عَلَى إِضْمَارِ عَامِلٍ ؛ وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=43وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) ، عَلَى إِضْمَارِ فِعْلِ التَّقْدِيرِ : أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ، وَلَمْ يَجْعَلُوا بِالْبَيِّنَاتِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا ، لِئَلَّا يَكُونَ : إِلَّا ، قَدِ اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا رِجَالًا ، وَالْآخَرُ بِالْبَيِّنَاتِ ، مِنْ غَيْرِ عَطْفٍ . وَقَدْ مَنَعَ
أَبُو الْحَسَنِ وَأَبُو عَلِيٍّ : مَا أَخَذَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا ، وَمَا ضَرَبَ الْقَوْمُ إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَاخْتَلَفَا فِي تَصْحِيحِهَا ، فَصَحَّحَهَا
أَبُو الْحَسَنِ بِأَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمَرْفُوعِ الَّذِي بَعْدَهَا فَيَقُولُ : مَا أَخَذَ أَحَدٌ زَيْدٌ إِلَّا دِرْهَمًا ، فَيَكُونُ زَيْدٌ بَدَلًا مِنْ أَحَدٍ ، وَيَكُونُ إِلَّا قَدِ اسْتُثْنِيَ بِهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الدِّرْهَمُ ، وَيَكُونُ إِلَّا دِرْهَمًا اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنَ الْمَفْعُولِ الَّذِي حُذِفَ ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى : مَا أَخَذَ زَيْدٌ شَيْئًا إِلَّا دِرْهَمًا . وَتَصْحِيحُهَا عِنْدَ
أَبِي عَلِيٍّ بِأَنْ يَزِيدَ فِيهَا مَنْصُوبًا قَبْلَ إِلَّا فَيَقُولُ : مَا أَخَذَ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا زَيْدٌ دِرْهَمًا ، وَ : مَا ضَرَبَ الْقَوْمُ أَحَدًا إِلَّا بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ فَيَكُونُ الْمَرْفُوعُ بَدَلًا مِنَ الْمَرْفُوعِ ، وَالْمَنْصُوبُ بَدَلًا مِنَ الْمَنْصُوبِ ، هَكَذَا خَرَّجَهُ بَعْضُهُمْ .
قَالَ
ابْنُ السَّرَّاجِ : أَعْطَيْتُ النَّاسَ دِرْهَمًا إِلَّا عَمْرًا ، جَائِزٌ ، وَلَا يَجُوزُ أَعْطَيَتُ النَّاسَ دِرْهَمًا إِلَّا عَمْرًا الدَّنَانِيرَا ، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُسْتَثْنَى بِهِ إِلَّا وَاحِدٌ ، فَإِنْ قُلْتَ : مَا أَعْطَيْتُ النَّاسَ دِرْهَمًا إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا ، عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَجُزْ ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ جَازَ ، فَتُبْدِلُ عَمْرًا مِنَ النَّاسِ ، وَدَانِقًا مِنْ دِرْهَمٍ ، كَأَنَّكَ قُلْتَ : مَا أَعْطَيْتُ إِلَّا عَمْرًا دَانِقًا . وَيَعْنِي : أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْحَصْرِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ . قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : مَا قَالَهُ
ابْنُ السَّرَّاجِ فِيهِ ضَعْفٌ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَا بُدَّ مِنَ اقْتِرَانِهِ بِإِلَّا ، فَأَشْبَهَ الْمَعْطُوفَ بِحَرْفٍ ، فَكَمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهُ مَعْطُوفَانِ لَا يَقَعُ بَعْدَ إِلَّا بَدَلَانِ . انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَجَازَ قَوْمٌ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ إِلَّا مُسْتَثْنَيَانِ دُونَ عَطْفٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ إِلَّا هِيَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُعَدَّيَةٌ ، وَلَوْلَا إِلَّا لَمَا جَازَ لِلِاسْمِ بَعْدَهَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَا قَبْلَهَا ، فَهِيَ كَوَاوِ مَعَ ، وَكَالْهَمْزَةِ الَّتِي جُعِلَتْ لِلتَّعْدِيَةِ فِي بِنْيَةِ الْفِعْلِ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا تُعَدَّى وَاوُ مَعَ وَلَا الْهَمْزَةُ لِغَيْرِ مَطْلُوبِهَا الْأَوَّلِ إِلَّا بِحَرْفِ عَطْفٍ ، فَكَذَلِكَ إِلَّا ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي مَهَّدْنَاهُ يَتَعَلَّقُ : مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، وَيَنْتَصِبُ : بَغْيًا ، بِعَامِلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ ، وَتَقْدِيرُهُ : اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ .