[ ص: 64 ] الظاهر أنه تفقد جميع الطير ، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا . قيل : وكان يأتيه من كل صنف واحد ، فلم ير الهدهد . وقيل : كانت الطير تظله من الشمس ، وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن ، فمسته الشمس ، فنظر إلى مكان الهدهد ، فلم يره . وعن : أن عبد الله بن سلام سليمان - عليه السلام - نزل بمفازة لا ماء فيها ، وكان الهدهد يرى ظاهر الأرض وباطنها ، وكان يخبر سليمان بذلك ، فكانت الجن تخرجه في ساعة تسلخ الأرض كما تسلخ الشاة ، فسأل عنه حين حلوا تلك المفازة ، لاحتياجهم إلى الماء . وفي قوله ( وتفقد الطير ) دلالة على تفقد الإمام أحوال رعيته والمحافظة عليهم . وقال عمر - رضي الله عنه - : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر وفي الكلام محذوف ، أي فقد الهدهد حين تفقد الطير .
قال ابن عطية وقوله : ( ما لي لا أرى الهدهد ) مقصد الكلام الهدهد ، غاب ولكنه أخذ اللازم عن مغيبه ، وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز والاستفهام الذي في قوله : ( ما لي ) ناب مناب الألف التي تختلجها " أم " . انتهى . فظاهر هذا الكلام أن " أم " متصلة وأن الاستفهام الذي في قوله " مالي " ناب مناب ألف الاستفهام ، فمعناه عنده : أغاب عني الآن فلم أره حالة التفقد ؟ أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته ؟ وقال : أم هي المنقطعة ، نظر إلى مكان [ ص: 65 ] الهدهد فلم يبصره فقال : ( الزمخشري ما لي لا أرى الهدهد ) ؟ على معنى : أنه لا يراه ، وهو حاضر ، لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب ؟ كأنه سأل صحة ما لاح له ، ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ؟ انتهى . والصحيح أن أم في هذا هي المنقطعة ؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام ، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة ، كانت " أم " منقطعة ، وهنا تقدم " ما " ، ففات شرط المتصلة . وقيل : يحتمل أن تكون من المقلوب وتقديره : ما للهدهد لا أراه ؟ ولا ضرورة إلى ادعاء القلب . وفي الكشاف ، أن سليمان لما تم له بناء بيت المقدس ، تجهز للحج ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، ثم عزم على المسير إلى اليمن ، فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغذى ويصلي ، فلم يجد الماء ، وكان الهدهد يأتيه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض . وذكر أنه كان الجن يسلخون الأرض حتى يظهر الماء .
( لأعذبنه عذابا شديدا ) أبهم العذاب الشديد ، وفي تعيينه أقوال متعارضة ، والأجود أن يجعل أمثلة . فعن ، ابن عباس ومجاهد ، : نتف ريشه . وقال وابن جريج : ريشه كله . وقال ابن جريج يزيد بن رومان : جناحه . وقال ابن وهب : نصفه ويبقي نصفه . وقيل : يزاد مع نتفه تركه للشمس . وقيل : يحبس في القفص . وقيل : يطلى بالقطران ويشمس . وقيل : ينتف ويلقى للنمل . وقيل : يجمع مع غير جنسه . وقيل : يبعد من خدمة سليمان - عليه السلام - . وقيل : يفرق بينه وبين إلفه . وقيل : يلزم خدمة امرأته ، وكان هذا القول من سليمان غضبا لله ، حيث حضرت الصلاة وطلب الماء للوضوء فلم يجده ، وأباح الله له ذلك للمصلحة ، كما أباح البهائم والطيور للأكل ، وكما سخر له الطير ، فله أن يؤدبه إذا لم يأت ما سخر له .
وقرأ الجمهور : أو " ليأتيني " بنون مشددة بعدها ياء المتكلم ، وابن كثير : بنون مشددة بعدها نون الوقاية بعد الياء ؛ وعيسى بن عمر : بنون مشددة مفتوحة بغير ياء . والسلطان المبين : الحجة والعذر ، وفيه دليل على الإغلاظ على العاصين وعقابهم . وبدأ أولا بأخف العقابين ، وهو التعذيب ؛ ثم أتبعه بالأشد ، وهو إذهاب المهجة بالذبح ، وأقسم على هذين لأنهما من فعله ، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بأو ، كأنه قال : ليكونن أحد الثلاثة ، والمعنى : إن أتى بالسلطان ، لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإلا كان أحدهما . ولا يدل قسمه على الإتيان على ادعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه يأتيه بسلطان ، فيكون قوله : ( أو ليأتيني بسلطان مبين ) عن دراية وإيقان .
وقرأ الجمهور : فمكث ، بضم الكاف ؛ وعاصم ، وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وسهل ، وروح : بضمها . وفي قراءة أبي : فيمكث ، ثم قال : وفي قراءة عبد الله : فيمكث ، فقال : وكلاهما في الحقيقة تفسير لا قراءة ، لمخالفة ذلك سواد المصحف ، وما روي عنهما بالنقل الثابت . والظاهر أن الضمير في فمكث عائد على الهدهد ، أي غير زمن بعيد ، أي عن قرب . ووصف مكثه بقصر المدة ، للدلالة على إسراعه ، خوفا من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله . وقيل : وقف مكانا غير بعيد من سليمان ، وكأنه فيما روي ، حين نزل سليمان حلق الهدهد ، فرأى هدهدا ، فانحط عليه ووصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وعظم منه ، وذهب معه لينظر ، فما رجع إلا بعد العصر . وقيل : الضمير في فمكث لسليمان . وقيل : يحتمل أن يكون لسليمان وللهدهد ، وفي الكلام حذف ، فإن كان غير بعيد زمانا ، فالتقدير : فجاء سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ فقال : أحطت ؛ وإن كان مكانا ، فالتقدير : فجاء فوقف مكانا قريبا من سليمان ، فسأله : ما غيبك ؟ وكان فيما روي قد علم بما أقسم عليه سليمان ، فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه ، وهو أن غيبته كانت لأمر [ ص: 66 ] عظيم عرض له ، فقال : ( أحطت بما لم تحط به ) وفي هذا جسارة من لديه علم ، لم يكن عند غيره ، وتبجحه بذلك ، وإبهامه حتى تتشوف النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو . ومعنى الإحاطة هنا : أنه علم علما ليس عند نبي الله سليمان .
قال : ألهم الله الهدهد ، فكافح الزمخشري سليمان بهذا الكلام ، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به سليمان ، لتتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء ، وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته ، لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة " إن الإمام لا يخفى عليه شيء " ، ولا يكون في زمانه أعلم منه . انتهى .
ولما أبهم في قوله : ( بما لم تحط ) انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما ، وهو قوله : ( وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) ؛ إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه ، وأنه له علم بخبر مستيقن له . وقرأ الجمهور : من سبأ ، مصروفا ، هذا وفي : ( لقد كان لسبأ ) وابن كثير ، وأبو عمرو : بفتح الهمزة ، غير مصروف فيهما ، وقنبل من طريق النبال : بإسكانها فيهما . فمن صرفه جعله اسما للحي أو الموضع أو للأب ، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . ( والستة ) : حمير ، وكندة ، والأزد ، وأشعر ، وخثعم ، وبجيلة ؛ ( والأربعة ) : لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان . وكان سبأ رجلا من " أنه اسم رجل ولد عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة قحطان اسمه عبد شمس . وقيل : عامر ، وسمي سبأ لأنه أول من سبا ، ومن منعه الصرف جعله اسما للقبيلة أو البقعة ، وأنشدوا على الصرف :
الواردون وتيم في ذرى سبأ قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ومن سكن الهمزة ، فلتوالي الحركات فيمن منع الصرف ، وإجراء للوصل مجرى الوقف . وقال : الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي . انتهى . وقرأ مكي : من سبأ ، بكسر الهمزة من غير تنوين ، حكاها عنه الأعمش ابن خالويه وابن عطية ، ويبعد توجيهها . وقرأ ابن كثير في رواية : من سبا ، بتنوين الباء على وزن رحى ، جعله مقصورا مصروفا . وذكر أبو معاذ أنه قرأ من سبأ : بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة ، بناه على فعلى ، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم . وروى ابن حبيب ، عن اليزيدي : من سبأ ، بألف ساكنة ، كقولهم : تفرقوا أيدي سبأ . وقرأت فرقة : بنبا ، بألف عوض الهمزة ، وكأنها قراءة من قرأ : سبا ، بالألف ، لتتوازن الكلمتان ، كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمز المكسور والتنوين . وقال في التحرير : إن هذا النوع في علم البديع يسمى بالترديد ، وفي كتاب التفريع بفنون البديع . إن الترديد رد أعجاز البيوت على صدورها ، أو رد كلمة من النصف الأول إلى النصف الثاني ، ويسمى أيضا التصدير ، فمثال الأول قوله :
سريع إلى ابن العم يجبر كسره وليس إلى داعي الخنا بسريع
ومثال الثاني قوله :
والليالي إذا نأيتم طوال والليالي إذا دنوتم قصار
وذكر أن مثل : ( من سبإ بنبإ ) يسمى تجنيس التصريف ، قال : وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ، ومنه قوله - تعالى - : ( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ) وما ورد في الحديث : . وقال الشاعر : " الخيل معقود في نواصيها الخير "
لله ما صنعت بنا تلك المعاجر والمحاجر
وقال : وقوله : ( الزمخشري من سبإ بنبإ ) من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع ، وهو من محاسن [ ص: 67 ] الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعا ، أو بصيغة عالم بجوهر الكلام ، يحفظ معه صحة المعنى وسداده . ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة ، فحسن وبدع لفظا ومعنى . ألا ترى لو وضع مكان بنبأ بخبر لكان المعنى صحيحا ؟ وهو كما جاء أصح ، لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال . انتهى . والزيادة التي أشار إليها هي أن النبأ لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ، ولفظ الخبر مطلق ، ينطلق على ماله شأن وما ليس له شأن .
ولما أبهم الهدهد أولا ، ثم أبهم ثانيا دون ذلك الإبهام ، صرح بما كان أبهمه فقال : ( إني وجدت امرأة تملكهم ) . ولا يدل قوله : ( تملكهم ) على جواز أن تكون المرأة ملكة ؛ لأن ذلك كان من فعل قوم بلقيس ، وهم كفار ، فلا حجة في ذلك . وفي صحيح البخاري ، من حديث ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال : ابن عباس . ونقل عن " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ، ولم يصح عنه . ونقل عن محمد بن جرير أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه ، لا على الإطلاق ، ولا أن يكتب لها مسطور بأن فلانة مقدمة على الحكم ، وإنما ذلك على سبيل التحكم والاستنابة في القضية الواحدة . ومعنى وجدت هنا : أصبت ، والضمير في تملكهم عائد على سبأ ، إن كان أريد القبيلة ، وإن أريد الموضع ، فهو على حذف ، أي وجئتك من أهل سبأ .
والمرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك اليمن كلها ، وقد ولده أربعون ملكا ، ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس . واختلف في اسم أبيها اختلافا كثيرا . قيل : وكانت أمها جنية تسمى ريحانة بنت السكن ، تزوجها أبوها ، إذ كان من عظمه لم ير أن يتزوج أحدا من ملوك زمانه ، فولدت له بلقيس ، وقد طولوا في قصصها بما لم يثبت في القرآن ، ولا الحديث الصحيح .
وبدأ الهدهد بالإخبار عن ملكها ، وأنها أوتيت من كل شيء ، وهذا على سبيل المبالغة ، والمعنى : من كل شيء احتاجت إليه ، أو من كل شيء في أرضها . وبين قول الهدهد ذلك ، وبين قول سليمان : ( وأوتينا من كل شيء ) فرق ، وذلك أن سليمان عطف على قوله : ( علمنا منطق الطير ) وهو معجزة ، فيرجع أولا إلى ما أوتي من النبوة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطف الهدهد على الملك ، فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها . ( ولها عرش عظيم ) قال ابن زيد : هو مجلسها . وقال سفيان : هو كرسيها ، وكان مرصعا بالجواهر ، وعليه سبعة أبواب . وذكروا من وصف عرشها أشياء ، الله هو العالم بحقيقة ذلك ، واستعظام الهدهد عرشها ، إما لاستصغار حالها أن يكون لها مثل هذا العرش ، وإما لأن سليمان لم يكن له مثله ، وإن كان عظيم المملكة في كل شيء ، لأنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هو تحت طاعته .
ولما كان سليمان قد آتاه الله من كل شيء ، وكان له عرش عظيم ، أخبره بهذا النبأ العظيم ، حيث كان في الدنيا من يشاركه فيما يقرب من ذلك . ولم يلتفت سليمان لذلك ، إذ كان معرضا عن أمور الدنيا . فانتقل الهدهد إلى الإخبار إلى ما يتعلق بأمور الدين ، وما أحسن انتقالات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك ، أخبر أولا باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان ، تحصنا من العقوبة ، بزينة العلم الذي حصل له ، فتشوف السامع إلى علم ذلك . ثم أخبرنا ثانيا بتعلق ذلك العلم ، وهو أنه من سبأ ، وأنه أمر متيقن لا شك فيه ، فزاد تشوف السامع إلى سماع ذلك النبأ . ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي أوتيته امرأة ، وكان سليمان - عليه السلام - قد سأل الله أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده . ثم أخبر رابعا ما ظاهره الاشتراك بينه وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا شأن النساء أن تملك فحول الرجال ، وهو قوله : ( وأوتيت من كل شيء ) وقوله : ( ولها عرش عظيم ) وكان سليمان له بساط قد صنع له ، وكان عظيما . ولما لم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله ، إذ هو أمر دنياوي ، أخبره خامسا بما يهزه لطلب [ ص: 68 ] هذه الملكة ، ودعائها إلى الإيمان بالله ، وإفراده بالعبادة ، فقال : ( وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) وقد تقدم القول : إنهم كانوا مجوسا يعبدون الأنوار ، وهو قول الحسن . وقيل : كانوا زنادقة .
وهذه الإخبارات من الهدهد كانت على سبيل الاعتذار عن غيبته عن سليمان ، وعرف أن مقصد سليمان الدعاء إلى توحيد الله والإيمان به ، فكان ذلك عذرا واضحا أزال عنه العقوبة التي كان سليمان قد توعده بها . وقام ذلك الإخبار مقام الإيقان بالسلطان المبين ؛ إذ كان في غيبته مصلحة لإعلام سليمان بما كان خافيا عنه ، ومآله إلى إيمان الملكة وقومها . وخفي ملك هذه المرأة ومكانها على سليمان ، وإن كانت المسافة بينهما قريبة ، كما خفي ملك يوسف على يعقوب ، وذلك لأمر أراده الله - تعالى - . قال : ومن نوكى القصاص من يقف على قوله : ( الزمخشري ولها عرش ) ثم يبتدئ ( عظيم وجدتها يريد " أمر عظيم " أن وجدتها ، فر من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله . انتهى . وقال أيضا ( فإن قلت ) : من أين للهدهد الهدى إلى معرفة الله ووجوب السجود له ، وإنكار السجود للشمس ، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه ؟ ( قلت ) : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات المعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء يهتدون لها . ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان خصوصا في زمان نبي سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . انتهى .
وأسند التزيين إلى الشيطان ، إذ كان هو المتسبب في ذلك بأقدار الله تعالى . ( فصدهم عن السبيل ) أي الشيطان ، أو تزيينه عن السبيل وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة . ( فهم لا يهتدون ) أي إلى الحق . وقرأ ، ابن عباس وأبو جعفر ، ، والزهري والسلمي ، والحسن ، وحميد ، : ألا ، بتخفيف لام الألف ، فعلى هذا له أن يقف على : ( والكسائي فهم لا يهتدون ) ويبتدئ على : ( ألا يسجدوا ) . قال : وإن شاء وقف على ألا ثم ابتدأ اسجدوا ، وباقي السبعة : بتشديدها ، وعلى هذا يصل قوله : ( الزمخشري فهم لا يهتدون ) بقوله : ( ألا يسجدوا ) . وقال : وفي حرف الزمخشري عبد الله ، وهي قراءة : هلا وهلا ، بقلب الهمزتين هاء ، وعن الأعمش عبد الله : هلا يسجدون ، بمعنى : ألا تسجدون ، على الخطاب . وفي قراءة أبي : " ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون " انتهى . وقال ابن عطية : وقرأ : هلا يسجدون ؛ وفي حرف الأعمش عبد الله : ألا هل تسجدون ، بالتاء ، وفي قراءة أبي : ألا تسجدون ، بالتاء أيضا ؛ فأما قراءة من أثبت النون في يسجدون ، وقرأ بالتاء أو الياء ، فتخريجها واضح . وأما قراءة باقي السبعة فخرجت على أن قوله : ( ألا يسجدوا ) في موضع نصب ، على أن يكون بدلا من قوله : ( أعمالهم ) أي فزين لهم الشيطان أن لا يسجدوا . وما بين المبدل منه والبدل معترض ، أو في موضع جر ، على أن يكون بدلا من السبيل ، أي فصدهم عن أن لا يسجدوا . وعلى هذا التخريج تكون " لا " زائدة ، أي فصدهم عن أن يسجدوا لله ، ويكون ( فهم لا يهتدون ) معترضا بين المبدل منه والبدل ، ويكون التقدير : لأن لا يسجدوا . وتتعلق اللام إما بزين ، وإما بقصدهم ، واللام الداخلة على " أن " داخلة على مفعول له ، أي علة تزيين الشيطان لهم ، أو صدهم عن السبيل ، هي انتفاء سجودهم لله ، أو لخوفه أن يسجدوا لله . وقال : ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ، ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . انتهى . وأما قراءة الزمخشري ومن وافقه ، فخرجت على أن تكون " ألا " حرف استفتاح ، ويا حرف نداء ، والمنادى محذوف ، واسجدوا فعل أمر ، وسقطت ألف " يا " التي للنداء ، وألف الوصل في اسجدوا ، إذ رسم المصحف يسجدوا بغير ألفين لما سقطا لفظا سقطا خطا . ومجيء مثل هذا التركيب موجود في كلام العرب . قال الشاعر : ابن عباس
ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد
وقال :
ألا يا اسقياني قبل غارة سنجال
[ ص: 69 ] وقال :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى
وقال :
ألا يا اسقياني قبل حبل أبي بكر
فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي
وقال :
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر وإن كان جبانا عدا آخر الدهر
وسمع بعض العرب يقول :
ألا يا ارحمونا ألا تصدقوا علينا
ووقف في هذه القراءة على " يا " ثم يبتدئ اسجدوا ، وهو وقف اختيار لا اختبار ، والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست " يا " فيه للنداء ، وحذف المنادى ؛ لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ؛ لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه . ولو حذفنا المنادى ، لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه وهو المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا . وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه ، كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء . وليس حرف النداء حرف جواب ، كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ؛ فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة . فـ " يا " عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به " ألا " التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ، ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله : الكسائي
فأصبحن لا يسألنني عن بما به
والمتفقي اللفظ العاملين في قوله :
ولا للما بهم أبدا دواء
وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين ، وهما مختلفا اللفظ ، يكون جائزا ، وليس " يا " في قوله :
يا لعنة الله والأقوام كلهم
حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى لما ذكرناه . وقال : ( فإن قلت ) : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعا ، أو في واحدة منهما : ( قلت ) : هي واجبة فيهما ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك ؛ وما ذكره الزمخشري من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه ، انتهى . والخبء : مصدر أطلق على المخبوء ، وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه تعالى من غيوبه . وقرأ الجمهور : الخبء ، بسكون الباء والهمزة . وقرأ الزجاج أبي ، وعيسى : بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة . وقرأ عكرمة : بألف بدل الهمزة ، فلزم فتح ما قبلها ، وهي قراءة عبد الله ، . ويخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، ومررت بالخبي ، ورأيت الخبا ، وأجرى الوصل مجرى الوقف . وأجاز ومالك بن دينار الكوفيون أن تقول في المرأة والكمأة : المراة والكماة ، فيبدل من الهمزة ألفا ، فتفتح ما قبلها ، فعلى قولهم هذا يجوز أن يكون الخبأ منه . قيل : وهي لغة ضعيفة ، وإجراء الوصل مجرى الوقف أيضا نادر قليل ، فيعادل التخريجان . ونقل الحركة إلى الباء ، وحذف الهمزة ، حكاه ، عن قوم من سيبويه بني تميم وبني أسد . وقراءة الخبا بالألف ، طعن فيها أبو حاتم وقال : لا يجوز في العربية ، قال : لأنه إن حذف الهمزة ألقى حركتها على الباء فقال : الخب ، وإن حولها قال : الخبي ، بسكون الباء وياء بعدها . قال : كان المبرد أبو حاتم دون أصحابه في النحو ، ولم يلحق بهم ، إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه . والظاهر أن ( في السماوات ) متعلق بالخبء ، أي المخبوء في السماوات . وقال الفراء في ومن يتعاقبان بقول العرب : لأستخرجن العلم فيكم ، يريد منكم . انتهى . فعلى هذا يتعلق بيخرج ، أي من في السماوات .
( ولما كان الهدهد قد أوتي من معرفة الماء تحت الأرض ما لم يؤت غيره ، وألهمه الله - تعالى - ذلك ، كان وصفه ربه - تعالى - بهذا الوصف الذي هو قوله : ( الذي يخرج الخبء ) إذ كل مختص بوصف من علم أو صناعة ، يظهر عليه مخايل ذلك الوصف في روائه ومنطقه وشمائله ، ولذلك ورد ما عمل عبد عملا إلا ألقى الله عليه رداء عمله . وقرأ الحرميان والجمهور : ما يخفون وما [ ص: 70 ] يعلنون ، بياء الغيبة ، والضمير عائد على المرأة وقومها . وقرأ الكسائي وحفص : بتاء الخطاب ، فاحتمل أن يكون خطابا لسليمان - عليه السلام - والحاضرين معه ، إذ يبعد أن تكون محاورة الهدهد لسليمان ، وهما ليس معهما أحد . وكما جاز له أن يخاطبه بقوله : ( أحطت بما لم تحط به ) جاز أن يخاطبه والحاضرين معه بقوله : ( ما تخفون وما تعلنون ) بل خطابه بهذا ليس فيه ظهور شغوف بخلاف ذلك الخطاب . والظاهر أن قوله : ( ألا يسجدوا ) إلى العظيم من كلام الهدهد . وقيل : من كلام الله - تعالى - لأمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عطية : القراءة بياء الغيبة تعطي أن الآية من كلام الهدهد ، وبتاء الخطاب تعطي أنها من خطاب الله - عز وجل - لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال صاحب الغنيان : لما ذكر الهدهد عرش بلقيس ووصفه بالعظم ، رد الله - عز وجل - عليه وبين أن عرشه - تعالى - هو الموصوف بهذه الصفة على الحقيقة ، إذ لا يستحق عرش دونه أن يوصف بالعظمة . وقيل : إنه من تمام كلام الهدهد ، كأنه استدرك ورد العظمة من عرش بلقيس إلى عرش الله . وقال : ( فإن قلت ) : كيف سوى الهدهد بين عرش الزمخشري بلقيس وعرش الله في الوصف بالعظم ؟ ( قلت ) : بين الوصفين فرق ؛ لأن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض . انتهى . وقرأ ابن محيصن وجماعة : العظيم بالرفع ، فاحتمل أن تكون صفة للعرش ، وقطع على إضمار هو على سبيل المدح ، فتستوي قراءته وقراءة الجمهور في المعنى . واحتمل أن تكون صفة للرب ، وخص العرش بالذكر ، لأنه أعظم المخلوقات ، وما عداه في ضمنه .
ولما فرغ الهدهد من كلامه ، وأبدى عذره في غيبته ، أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه من كذبه فقال : ( سننظر أصدقت ) في إخبارك أم كذبت . والنظر هنا : التأمل والتصفح ، و " أصدقت " : جملة معلق عنها " سننظر " ، وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، لأن نظر ، بمعنى التأمل والتفكر ، إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في . وعادل بين الجملتين بأم ، ولم يكن التركيب أم كذبت ؛ لأن قوله : ( أم كنت من الكاذبين ) أبلغ في نسبة الكذب إليه ؛ لأن كونه من الكاذبين يدل على أنه معروف بالكذب ، سابق له هذا الوصف قبل الإخبار بما أخبر به . وإذا كان قد سبق له الوصف بالكذب ، كان متهما فيما أخبر به ، بخلاف من يظن ابتداء كذبه فيما أخبر به . وفي الكلام حذف تقديره : فأمر بكتابة كتاب إليهم ، وبذهاب الهدهد رسولا إليهم بالكتاب ، فقال : ( اذهب بكتابي هذا ) أي الحاضر المكتوب الآن . ( فألقه إليهم ثم تول عنهم ) أي تنح عنهم إلى مكان قريب ، بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول .
وفي قوله : ( اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) دليل على إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام ، يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام . وقد كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى كسرى وقيصر وغيرهما ملوك العرب . وقال وهب : أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسب ما يتأدب به الملوك ، بمعنى : وكن قريبا بحيث تسمع مراجعاتهم . وقال ابن زيد : أمره بالتولي بمعنى الرجوع إليه ، أي ألقه وارجع . قال : وقوله : ( فانظر ماذا يرجعون ) في معنى التقديم على قوله : ( ثم تول عنهم ) . انتهى . وقاله أبو علي ، ولا ضرورة تدعو إلى التقديم والتأخير ، بل الظاهر أن النظر معتقب التولي عنهم . وقرئ في السبعة : فألقه ، بكسر الهاء وياء بعدها ، وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء . وقرأ مسلم بن جندب : بضم الهاء وواو بعدها ، وجمع في قوله : ( إليهم ) الهدهد قال : ( وجدتها وقومها ) . وفي الكتاب أيضا ضمير الجمع في قوله : ( أن لا تعلوا علي ) والكتاب كان فيه الدعاء إلى الإسلام لبلقيس وقومها . ومعنى : ( فانظر ماذا يرجعون ) أي تأمل واستحضره في ذهنك . وقيل معناه : فانتظر . ماذا : إن كان معنى فانظر معنى [ ص: 71 ] التأمل بالفكر ، كان انظر معلقا ، وماذا : إما كلمة استفهام في موضع نصب ، وإما أن تكون ما استفهاما وذا موصول بمعنى الذي . فعلى الأول يكون " يرجعون " خبرا عن " ماذا " ، وعلى الثاني يكون " ذا " هو الخبر و " يرجعون " صلة " ذا " . وإن كان معنى فانظر : فانتظر ، فليس فعل قلب فيعلق ، بل يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي ، أي فانتظر الذي يرجعون ، والمعنى : فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلي ما يرجعون من القول .