( إلا عباد الله ) استثناء منقطع . لما ذكر شيئا من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ونعيمهم . و ( المخلصين ) صفة مدح ; لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين . ووصف ( رزق ) بمعلوم ، أي عندهم . فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق ، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها . وقال : معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت كقوله ( الزمخشري ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) . وعن قتادة : الرزق المعلوم : الجنة . وقوله ( في جنات النعيم ) يأباه . انتهى . ( فواكه ) بدل من ( رزق ) ، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ . وقرأ ابن مقسم : مكرمون ، بفتح الكاف مشدد الراء .
ذكر أولا الرزق ، وهو ما يتلذذ به الأجسام . وثانيا الإكرام ، وهو ما يتلذذ به النفوس ، ورزق بإهانة تنكيد . ثم ذكر المحل الذي هم فيه ، وهو جنات النعيم . ثم أشرف المحل ، وهو السرر . ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضا ، وهو أتم السرور وآنسه . ثم المشروب وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم ، بل يطاف عليهم بالكئوس . ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد . ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية ، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق ، وهي أبلغ الملاذ ، وهي التآنس بالنساء .
وقرأ الجمهور ( على سرر ) ، بضم الراء ; وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة بعض تميم ; وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما . واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح ، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم . ومنهم من خص ذلك بالاسم ، وهو مورد السماع في تلك اللغة . وقيل : التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض . وفي الحديث : " أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم " . و ( يطاف ) مبني للمفعول وحذف الفاعل ، وهو المثبت في آية أخرى في قوله ( ويطوف عليهم ولدان مخلدون ) ، ( ويطوف عليهم غلمان لهم ) ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف . ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة . والكأس : ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ، ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك . وقد سمى الخمر نفسها كأسا ، تسمية للشيء باسم محله ، قال الشاعر :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال ، ابن عباس والضحاك ، والأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر . وقيل : الكأس هيئة مخصوصة في الأواني ، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى كونه لخمر أو لا . ( من معين ) أي من شراب معين ، أو من ثمد معين ، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء . و ( بيضاء ) صفة للكأس أو للخمر . وقال الحسن : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن . وفي قراءة عبد الله : صفراء ، كما قال بعض المولدين :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء
و ( لذة ) صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذة بمعنى لذيذ . [ ص: 360 ] ( لا فيها غول ) قال ، ابن عباس وقتادة : هو صداع في الرأس . وقال أيضا ، ابن عباس ومجاهد ، وابن زيد : وجع في البطن . انتهى . والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر ، فينتفي جميعها من مغص ، وصداع ، وخمار ، وعربدة ، ولغو ، وتأثيم ، ونحو ذلك . ولما كان السكر أعظم مفاسدها ، أفرده بالذكر فقال ( ولا هم عنها ينزفون ) . وقرأ الحرميان ، والعربيان : بضم الياء وفتح الزاي هنا ، وفي الواقعة : وبذهاب العقل ، فسره ، ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، وحمزة ، : بكسرها فيهما ; والكسائي وعاصم : بفتحها هنا وكسرها في الواقعة ; وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي ; وطلحة : بفتح الياء وضم الزاي . قال ، ابن عباس ومجاهد ، وابن زيد ( قاصرات الطرف ) قصرن الطرف على أزواجهن ، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى ( عربا ) ، وقال الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الخد منها لأثرا
والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين في جمال . ( كأنهن بيض مكنون ) شبههن ، قال الجمهور : ببيض النعام المكنون في عشه ، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة ، وبها تشبه النساء فقال :
مضيئات الخدود ومنه قول امرئ القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
وقال ، السدي : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل ، وهو غرقئ البيضة ، وهو المكنون في كن ، ورجحه وابن جبير وقال : وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون . وعن الطبري ، البيض المكنون : الجوهر المصون ، واللفظ ينبو عن هذا القول . وقالت فرقة : هو تشبيه عام لجملة المرأة بجملة البيضة ، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة ، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه ، فنسبة شعرها إلى عينها مستوية ، إذ هما غاية في نوعها ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ; لأنها من حيث حسنها في النظر واحد ، كما قال بعض الأدباء يتغزل : ابن عباس
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافا بل أتين على قدر
وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته . و ( فأقبل ) معطوف على ( يطاف عليهم ) والمعنى : يشربون فيتحدثون على الشراب ، كعادة الشراب في الدنيا .
قال الشاعر :
وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام
وجيء به ماضيا لصدق الإخبار به ، فكأنه قد وقع . ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى ، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه ، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب ، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم . قال وغيره : كان هذا القائل وقرينه من البشر . وقالت فرقة : هما اللذان في قوله ( ابن عباس ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) . وقال مجاهد : كان إنسيا وجنيا من الشياطين الكفرة . وقرأ الجمهور ( من المصدقين ) ، بتخفيف الصاد ، من التصديق ; وفرقة : بشدها ، من التصدق . قال قرة بن ثعلبة النهراني : كانا شريكين بثمانية آلاف درهم ، يعبد الله أحدهما ويقصر في التجارة والنظر ، والآخر كان مقبلا على ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصد الله . وقال : نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله فاحتاج ، فاستجدى بعض إخوانه ، فقال : وأين مالك ؟ فقال : تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيرا منه ، فقال : أئنك لمن المصدقين [ ص: 361 ] بيوم الدين ، أو من المتصدقين لطلب الثواب ؟ والله لا أعطيك شيئا . الزمخشري
( أئنا لمدينون ) ، قال ابن عباس وقتادة والسدي : لمجازون محاسبون ; وقيل : لمسوسون مديونون . يقال : دانه : ساسه ، ومنه الحديث : والظاهر أن الضمير في ( " العاقل من دان نفسه " . قال هل أنتم ) عائد على قائل في قوله ( قال قائل ) . قيل : وفي الكلام حذف تقديره : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة : إن قرينك هذا في جهنم يعذب ، فقال عند ذلك ( هل أنتم مطلعون ) . والخطاب في ( هل أنتم مطلعون ) يجوز أن يكون للملائكة ، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساءلون ، أو لخدمته ، وهذا هو الظاهر . لما كان قرينه ينكر البعث ، علم أنه في النار فقال ( هل أنتم مطلعون ) إلى النار لأريكم ذلك القرين ؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف ، ولا لقول الملائكة : إن قرينك في جهنم يعذب . قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . وقيل : القائل ( هل أنتم مطلعون ) الله تعالى . وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار . وقرأ الجمهور ( مطلعون ) ، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون ، واطلع بشد الطاء فعلا ماضيا . وقرأ أبو عمرو في رواية : مطلعون ، بإسكان الطاء وفتح النون ، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ، وهي قراءة حسين الجعفي ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج . وقرئ : فأطلع ، مشددا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام . وقرئ : مطلعون ، بالتخفيف ، فأطلع مخففا فعلا ماضيا ، وفأطلع مخففا مضارعا منصوبا . وقرأ أبو البرهثم ، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار : مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون ، فأطلع ماضيا مبنيا للمفعول ; ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره . لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم . والوجه مطلعي ، كما قال ، أو مخرجي هم ، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع ، وأنشد على هذا قول الشاعر : الطبري
وما أدري وظني كل ظن أمسلمني إلى قومي شراحي
قال الفراء : يريد شراحيل . وقال : يريد مطلعون إياي ، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله : الزمخشري
هم الفاعلون الخير والآمرونه
أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر . انتهى . والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح ، وتخريجه الأول لا يجوز ; لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل ، فيكون المتصل وضع موضعه ، لا يجوز هند زيد ضارب إياها ، ولا زيد ضارب إياي ، وكلام يدل على جوازه ، فالأولى تخريج الزمخشري أبي الفتح ، وقد جاء منه :
أمسلمني إلى قومي شراحي
وقول الآخر :
فهل فتى من سراة القوم يحملني وليس حاملني إلا ابن حمال
وقال الآخر :
وليس بمعييني
فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم ، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين ، لاجتماعهما في السقوط للإضافة . ويقال : طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد . ومن قرأ : فأطلع مبنيا للمفعول ، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو متعد بالهمزة ، إذ يقول : طلع زيد وأطلعه غيره . وقال صاحب اللوامح : طلع واطلع ، إذا بدا وظهر ; واطلع اطلاعا ، إذا أقبل ، وجاء مبنيا ، ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأقبل ؟ . وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع ، أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ; لأن ( اطلع ) لازم ، كما أن أقبل كذلك . انتهى . وقد ذكرنا أن أطلع عدي بالهمزة من طلع اللازم ، وأما قوله : أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به فهذا لا يجوز ; لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ; لأنه نائب عن الفاعل . فكما أن [ ص: 362 ] الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا . لو قلت : زيد ممدود أو مغضوب ، تريد به أو عليه ، لم يجز . و ( سواء الجحيم ) وسطها ، تقول : تعبت حتى انقطع سوائي . قال : سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، يعني سواء الجحيم . ابن عباس
وقال خليل العصري : رآه : تبدلت حاله ، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه ، قال له عند ذلك ( تالله إن كدت لتردين ) أي لتهلكني بإغوائك . وإن مخففة من الثقيلة ، يلقى بها القسم ; وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه . ( ولولا نعمة ربي ) وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء ، ( لكنت من المحضرين ) للعذاب ، كما أحضرته أنت . ( أفما نحن بميتين ) ، قرأ : بمائتين ، والظاهر أنه من كلام القائل : يسمع قرينه على جهة التوبيخ له ، أي لسنا أهل الجنة بميتين ، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا ، بخلاف أهل النار فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت . زيد بن علي
( وما نحن بمعذبين ) ، كحال أهل النار ، بل نحن منعمون دائما . ويكون في خطابه ذلك منكلا له ، مقرعا محزنا له بما أنعم الله به عليه من دخول الجنة ، معلما له بتباين حاله في الآخرة بحاله . كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه ، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث . ويجوز أن يكون خطابا من القائل لرفقائه ، لما رأى ما نزل بقرينه ، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها . ويتصل قوله ( إن هذا ) إلى قوله ( العاملون ) بهذا التأويل أيضا ، لا واضحا خطابا لرفقائه . ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله ( لتردين ) ، ويكون ( أفما نحن ) إلى ( بمعذبين ) من كلامه وكلام رفقائه ، وكذلك ( إن هذا ) إلى ( العاملون ) أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار . وقيل : هو من قول الله تعالى تقريرا لقولهم وتصديقا له وخطابا لرسول الله وأمته ، ويقوي هذا قوله ( لمثل هذا فليعمل العاملون ) والآخرة ليست بدار عمل ، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز كأنه يقول : لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون . وقال : الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه : أنحن مخلدون ؟ أي منعمون ، فما نحن بميتين ولا معذبين . انتهى . وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام ، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما يصح به إقرار الهمزة والحرف في محلهما اللذين وقعا فيهما ، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير ، والهمزة بعده ، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت ، فالتقدير عند الجماعة . فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، وتقدم الكلام معه في ذلك . الزمخشري