اعلم : أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين [ ص: 505 ] الطبيعي من الحضارة الغربية ، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، والحق من الباطل ، وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار : أما النافع منها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه ، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور ، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني ، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها ، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه ، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .
فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى ، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية .
ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم ، وهلاك مستأصل ، كما هو مشاهد الآن ، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض ; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا .
والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها ، حصرا عقليا لا شك فيه :
الأول : ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها .
الثاني : أخذها كلها ضارها ونافعها .
الثالث : أخذ ضارها وترك نافعها .
الرابع : أخذ نافعها وترك ضارها .
فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة ، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك ، وواحدا صحيحا بلا شك .
أما الثلاثة الباطلة : فالأول منها تركها كلها ، ووجه بطلانه واضح ; لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم ، والتواكل والتكاسل ، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ 18 \ 60 ] .
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
[ ص: 506 ] القسم الثاني من الأقسام الباطلة أخذها ; لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع الروحية والمثل العليا للإنسانية أوضح من أن أبينه ، ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء ، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع ، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح ، وهو أخذ النافع وترك الضار .وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن ; لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة - وهي وطء المرضع - تضعف ولدها وتضره ، ومن ذلك قول الشاعر :
فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف
وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق ، مع أنه كافر .
فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة ، والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية ، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي ، والانسلاخ من الدين ، والتباعد من طاعة خالق الكون ، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .
وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، فأغنى ذلك [ ص: 507 ] عن إعادته هنا ، وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا .
وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، أن المعنى : أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك ، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة " البقرة " : قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده [ 2 \ 80 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وقيل : العهد المذكور : العمل الصالح ، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله .