أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كفار قوله تعالى : مكة الذين كذبوا نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ; لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح ، وأماكن قوم لوط ، وأماكن قوم هود ، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب ، لتكذيبهم رسلهم ، وكفرهم بربهم ، فيدركون بعقولهم : أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية ، قد عم أهلها الهلاك ، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم ، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير ، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك .
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم [ 47 \ 10 ] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله : وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] وكقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] [ ص: 275 ] وكقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم الآية [ 15 \ 76 ] ، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب : أصحاب الأيكة [ 50 \ 14 ] وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ; لأن معنى الآيتين : أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا منها جملا كافية في سورة المائدة وغيرها .
والآية تدل على أن محل العقل : في القلب ، ومحل السمع : في الأذن ، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان ; لأنه زماني فقط لا مكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى .
قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى الآية [ 17 \ 72 ] ، مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .