الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وكون إحرام أحد الزوجين أو الولي مانعا من عقد النكاح ، هو الذي عليه أكثر أهل العلم . وعزاه النووي في " شرح المهذب " لجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم . وقال : وهو مذهب عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، ومالك ، وأحمد ، والشافعي ، وإسحاق ، وداود ، وغيرهم . وقال في " شرح مسلم " : قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجمهور العلماء من الصحابة ، فمن بعدهم : لا يصح نكاح المحرم ، ا هـ . وقال ابن قدامة في " المغني " . وروي ذلك عن عمر وابنه ، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وبه [ ص: 18 ] قال سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن إحرام أحد الزوجين ، أو الولي ، ليس مانعا من عقد النكاح ، وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة ، وهو مروي عن الحكم ، والثوري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعزاه صاحب " المغني " ، لابن عباس ، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفا كما سترى : ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة ، هل هو مانع من عقد النكاح ، أو لا ؟ ، فهذه أدلتهم . أما الجمهور القائلون : بأن الإحرام مانع من النكاح ، فاستدلوا بما رواه مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال :

                                                                                                                                                                                                                                      قرأت على مالك ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر ، بنت شيبة بن جبير . فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج . فقال أبان : سمعت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تنكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع . حدثني نبيه بن وهب ، قال : بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر ، وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه . فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم . فقال : ألا أراه أعرابيا : " إن المحرم لا ينكح ولا ينكح " ، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثني أبو غسان المسمعي ، حدثنا عبد الأعلى ( ح ) ، وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى ، حدثنا محمد بن سواء . قالا جميعا : حدثنا سعيد عن مطر ، ويعلى بن حكيم ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب " .

                                                                                                                                                                                                                                      وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب . جميعا عن ابن عيينة . قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المحرم لا ينكح ولا يخطب " .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي عن جدي ، حدثني خالد بن يزيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال ، عن نبيه بن وهب : أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد [ ص: 19 ] أن ينكح ابنه طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج ، وأبان بن عثمان يومئذ أمير الحج ، فأرسل إلى أبان : إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر . فأحب أن تحضر ذلك ، فقال له أبان : ألا أراك عراقيا جافيا ! إني سمعت عثمان بن عفان يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينكح المحرم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير ، وإسحاق الحنظلي جميعا ، عن ابن عيينة ، قال ابن نمير : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء : أن ابن عباس أخبره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم ، زاد ابن نمير : فحدثت به الزهري فقال : أخبرني يزيد بن الأصم : أنه نكحها وهو حلال ، وحدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا داود بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد أبي الشعثاء ، عن ابن عباس أنه قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا جرير بن حازم ، حدثنا أبو فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، حدثتني ميمونة بنت الحارث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال . قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس . انتهى من صحيح مسلم . وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضا مالك ، وأحمد ، وأصحاب السنن . وقال أبو عيسى الترمذي بعد أن ساقه : حديث عثمان حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وهو قول بعض فقهاء التابعين ، وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لا يرون أن يتزوج المحرم . وقالوا : إن نكح فنكاحه باطل . وحديث يزيد بن الأصم عن ميمونة المذكور في صحيح مسلم : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو حلال " رواه أيضا الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والإمام أحمد ، وقال الترمذي : حدثنا قتيبة ، ثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع قال : " تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق ، عن ربيعة . وروى مالك بن أنس عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال " رواه مالك مرسلا ، ورواه أيضا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا . انتهى محل الغرض منه . وحديث أبي رافع هذا رواه أيضا الإمام أحمد ، وروى مالك - رحمه الله - في موطئه ، عن نافع أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول : لا ينكح المحرم ، ولا يخطب على نفسه ، ولا على غيره . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك أنه بلغه : أن سعيد بن [ ص: 20 ] المسيب وسالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم ؟ فقالوا : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح . وفي " الموطأ " أيضا عن مالك ، عن داود بن الحصين : أن أبا غطفان بن طريف المري ، أخبره أن أباه طريفا ، تزوج امرأة وهو محرم . فرد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نكاحه . وحديث أبي غطفان بن طريف ، هذا رواه أيضا الدارقطني ، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من مكة ، فأراد أن يعتمر أو يحج ؟ فقال : لا تتزوجها ، وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا هو حاصل أدلة من قال : بأن الإحرام مانع من عقد النكاح ، وأما الذين قالوا : بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح ، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم " ، وللبخاري : " تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف " ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم ، والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] وهو المشرع لأمته بأقواله ، وأفعاله ، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه ، فلو كان تزويج المحرم حراما لما فعله - صلى الله عليه وسلم - واحتج الجمهور القائلون بمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة ، قالوا : ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب " وصيغة النفي في قوله : " لا ينكح ، ولا ينكح ، ولا يخطب " يراد بها النهي ; كقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا في الحج ، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء ; كما هو مقرر في المعاني .

                                                                                                                                                                                                                                      والحديث دليل صحيح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم . وأجاب الجمهور القائلون : يمنع إحرام أحد الزوجين أو الولي عقد النكاح عن حديث ابن عباس المذكور ، بأجوبة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 21 ] واعلم أولا : أن المقرر في الأصول : أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما إن أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور ، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة ، وأبي رافع : " أنه تزوجها وهو حلال " ووجه الجمع في ذلك ، هو أن يفسر قول ابن عباس : أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرما في الشهر الحرام ، وقد تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء ، كما ذكره البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب : " المغازي في باب عمرة القضاء " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور ، وزاد ابن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح ، وأبان بن صالح ، عن عطاء ، ومجاهد ، عن ابن عباس قال : " تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة في عمرة القضاء " انتهى منه . ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة من سنة سبع ، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام ، أو في الحرم أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن منظور في " اللسان " : وأحرم الرجل : إذا دخل في حرمة لا تهتك . ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام ، وقد أنشده في اللسان شاهدا لذلك - قول زهير :

                                                                                                                                                                                                                                      جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محل ومحرم



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر :

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ فتك النعمان بالناس محرما     فمليء من عوف بن كعب سلاسله



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الراعي :

                                                                                                                                                                                                                                      قتلوا ابن عفان الخليفة محرما     ودعا فلم أر مثله مقتولا
                                                                                                                                                                                                                                      فتفرقت من بعد ذاك عصاهم     شققا وأصبح سيفهم مسلولا



                                                                                                                                                                                                                                      ويروى : فلم أر مثله مخذولا ، فقوله : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما : أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة ، وقيل المعنى : أنهم قتلوه في حرم المدينة ; لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك ، سواء كانت زمانية ، أو مكانية أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل اللغة ، منهم الأصمعي : إن معنى قول الراعي : محرما في بيته [ ص: 22 ] المذكور كونه في حرمة الإسلام ، وذمته التي يجب حفظها ، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل ، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير ، قول عدي بن زيد :

                                                                                                                                                                                                                                      قتلوا كسرى بليل محرما     غادروه لم يمتع بكفن



                                                                                                                                                                                                                                      يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز ، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به ، حين ملكوه عليهم ، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب به منهم القتل . وذلك هو مراده بقوله : محرما ، وعلى تفسير قول ابن عباس : وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس ، وبين حديث ميمونة وأبي رافع ، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور ، وأن التعارض بين الحديثين باق ، والمصير إلى الترجيح إذا واجب . وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس ، لأن ميمونة هي صاحبة القصة ، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره . وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره ، لأنه أعرف بالحال من غيره ، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور ، مع حديث ابن عباس . وإليه أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح ، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر :

                                                                                                                                                                                                                                      أو راويا باللفظ أو ذا الواقع     وكون من رواه غير مانع



                                                                                                                                                                                                                                      ومحل الشاهد منه قوله : أو ذا الواقع : أي يقدم خبر ذي الواقع المروي على خبر غيره كخبر ميمونة ، مع خبر ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس : أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه ، فهو مباشر للواقعة ، وابن عباس ليس كذلك ، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره ; لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره ، والأصوليون يمثلون له بخبر أبي رافع المذكور : أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال ، قال : وكنت الرسول فيما بينهما ، مع حديث ابن عباس المذكور : " أنه تزوجها وهو محرم " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يرجح به حديث ميمونة ، وحديث أبي رافع معا ، على حديث ابن عباس : أن ميمونة ، وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور ، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل . وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله ; لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل ، وللاختلاف في قبول [ ص: 23 ] خبر المتحمل ، قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ ، وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ ; لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه ، وإلى تقديم خبر الراوي المباشر على خبر غيره ، وتقديم خبر المتحمل بعد البلوغ على خبر المتحمل قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي ، بقوله عاطفا على ما يرجح أحد الخبرين :

                                                                                                                                                                                                                                      أو كونه مباشرا أو كلفا     أو غير ذي اسمين للأمن من خفا



                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : يرجح حديث ابن عباس ، بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما . ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري ، أرجح مما انفرد به مسلم ، وهو حديث ميمونة ، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد ، وهو حديث أبي رافع .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث ، إلى ابن عباس ، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعا لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه ; لأنهما أعلم بحال الواقعة منه ; لأن ميمونة صاحبة الواقعة ، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك . فلنفرض أن ابن عباس قال ذلك ، وأن أبا رافع وميمونة خلفاه ، وهما أعلم بالحال منه ; لأن لكل منهما تعلقا خاصا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن المرجحات التي رجح بها بعض العلماء حديث تزوجه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو حلال على حديث تزوجه إياها ، وهو محرم ، أن الأول : رواه أبو رافع ، وميمونة . والثاني : رواه ابن عباس وحده ، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :

                                                                                                                                                                                                                                      وكثرة الدليل والرواية     مرجح لدى ذوي الدراية



                                                                                                                                                                                                                                      كما تقدم في سورة البقرة . ولكن هذا الترجيح المذكور يرده ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " ، ولفظه : فالمشهور عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم " وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة . انتهى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام - أكثر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 24 ] فإن قيل : يرجح حديثهم إذا بالكثرة .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أنهم وإن كثروا فميمونة ، وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم ، والمرجحات يرجح بعضها على بعض ، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة - رضي الله عنها - عن نفسها ، وأخبر به الرسول بينها ، وبين زوجها - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما ، وأشار في " مراقي السعود " إلى ما ذكرنا بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      قطب رحاها قوة المظنه     فهي لدى تعارض مئنه



                                                                                                                                                                                                                                      ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ابن عباس ، لا تنهض به الحجة ، على جواز عقد النكاح في حال الإحرام هو أنا لو سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم ، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة . والأظهر دخوله هو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم ، فإذا فعل فعلا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول ، دل على أن ذلك الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل . فيكون خاصا به - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقرر في الأصول : أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح ، إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا يخالفه كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم القولي ، فيكون ذلك الفعل خاصا به - صلى الله عليه وسلم - . وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى ذلك في كتاب السنة بقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      في حقه القول بفعل خصا     إن يك فيه القول ليس نصا



                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : لا حجة في حديث عثمان المذكور في صحيح مسلم ، على منع عقد النكاح في حال الإحرام ; لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة ، وهو حرام في حال الإحرام إجماعا ، وليس المراد به العقد .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب من أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح ، لا الوطء . الأولى : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث المذكور : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح " فقوله : " ولا ينكح " بضم الياء ، دليل على أن المراد : لا يزوج ، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك [ ص: 25 ] الوطء ; لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام ، وطلب الزوج وطء زوجه في حال إحرام وليها ، فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعا ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : " ولا ينكح " ليس الوطء بل التزويج ، كما هو ظاهر القرينة الثانية : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال أيضا : " ولا يخطب " ، والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها ، وذلك دليل على أن المراد العقد ، لأنه هو الذي يطلب بالخطبة ، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : أن أبان بن عثمان راوي الحديث ، وهو من أعلم الناس بمعناه ، فسره بأن المراد بقوله : " ولا ينكح " : أي لا يزوج ; لأن السبب الذي أورد فيه الحديث ، هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير ، فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ، ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث ، بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام ، كحديث ابن عمر ، عند أحمد : أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من مكة : فأراد أن يعتمر أو يحج ، قال : لا تتزوجها وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      فتراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في حديث ابن عمر هذا : في إسناده أيوب بن عيينة ، وهو ضعيف وقد وثق ، وكالأثر الذي رواه مالك والبيهقي والدارقطني ، عن أبي غطفان بن طريف : أن أباه طريفا تزوج امرأة ، وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج ولا يخصه بالوطء . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " بإسناده عن الحسن ، عن علي قال : من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى بإسناده أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن عليا - رضي الله عنه - قال : لا ينكح المحرم ، فإن نكح رد نكاحه . وروي بإسناده أيضا عن شوذب مولى زيد بن ثابت : أنه تزوج ، وهو محرم ، ففرق بينهما زيد بن ثابت .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 26 ] قال : وروينا في ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وروي بإسناده أيضا عن قدامة بن موسى قال : تزوجت ، وأنا محرم فسألت سعيد بن المسيب فقال : يفرق بينهما ، وروي بإسناده أيضا عن سعيد بن المسيب : أن رجلا تزوج ، وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل ، هو أن إحرام أحد الزوجين أو الولي مانع من عقد النكاح ; لحديث عثمان الثابت في صحيح مسلم ، ولما قدمنا من الآثار الدالة على ذلك ، ولم يثبت في كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارض ذلك الحديث . وحديث ابن عباس معارض بحديث ميمونة ، وأبي رافع ، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه . ولو فرضنا أن حديث ابن عباس ، لم يعارضه معارض ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم . فهذا فعل خاص لا يعارض عموما قوليا لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل كما تقدم إيضاحه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن بشار ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم ، فلا تنهض به حجة على توهيم ابن عباس ; لأن الراوي عن سعيد ، لم تعرف عينه كما ترى ، وما احتج به كل واحد من المتنازعين في هذه المسألة من الأقيسة كقياس من أجاز النكاح في الإحرام ، النكاح على شراء الأمة في الإحرام لقصد الوطء ، وكقياس من منعه النكاح في الإحرام على نكاح المعتدة بجامع أن كلا منهما لا يعقبه جواز التلذذ ; كالوطء والقبلة تركناه وتركنا مناقشته ، لأن هذه المسألة من المسائل المنصوصة فلا حاجة فيها إلى القياس ، مع أن كل الأقيسة التي استدل بها الطرفان لا تنهض بها حجة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية