الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه

                                                                                                                                                                                                                                      الظاهر أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه . قال النووي في " شرح المهذب " : وهو مذهبنا ، وبه قال ابن عباس ، وأبو حنيفة وأبو ثور ، والجمهور . وقال ابن عمر وسعيد بن جبير : لا هدي إلا ما أحضر عرفات . وقال ابن قدامة في " المغني " : وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم ، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك . وروي هذا عن ابن عباس ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ، ونحوه عن سعيد بن جبير ، انتهى محل الغرض منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعلوم أن مذهب مالك : أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى ، إلا إذا وقف به بعرفة ، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة ، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فإن اشتراه في الحرم لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه ، وإنما قلنا : إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي ، بين الحل والحرم ; لثلاثة أمور .

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم ، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 176 ] الثالث : أنه قول أكثر أهل العلم . وقال جماعة من أهل العلم : يستحب أن يكون الهدي معه من بلده ، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة ، ثم من مكة ، ثم من عرفات ، فإن لم يسقه أصلا بل اشتراه من منى جاز ، وحصل الهدي اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الظاهر ، واحتج من قال : بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهد هديا إلا جامعا بين الحل والحرم ; لأنه يساق من الحل إلى الحرم ، وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق ، ونحو ذلك من الأدلة ، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم أفضل ، ولا يقل عن درجة الاستحباب ، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم . أما كونه لا يجزئ بدون ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل خاص ، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك ; لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام في مكان معين في زمن معين ، والغرض المقصود شرعا حاصل ، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم ، وجمع هديه - صلى الله عليه وسلم - بين الحل والحرم محتمل للأمر الجبلي ، فلا يتمحض لقصد التشريع ; لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده ، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك ، والله جل وعلا أعلم . فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي ; لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا خلاف بين أهل العلم في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق ، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة فقال : " اركبها " . قال : يا رسول الله ، إنها بدنة ، فقال : " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة " هذا لفظ مسلم . ولفظ البخاري ، فقال : " اركبها " فقال : إنها بدنة فقال : " اركبها " ، قال : إنها بدنة فقال : " اركبها ، ويلك " في الثانية أو في الثالثة " وروى مسلم نحوه عن أنس ، وجابر - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي ، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها ، وهو مذهب الشافعي ، قال النووي : وبه قال ابن المنذر ، وهو رواية عن مالك ، وقال عروة بن الزبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : له ركوبه من غير حاجة ، بحيث لا يضره . وبه قال أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة : لا يركبه إلا إن لم يجد منه بدا ، وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت [ ص: 177 ] الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال دليلا عندي في ركوب الهدي واجبا أو غير واجب : هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا ; لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج : أخبرني أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله ، سئل عن ركوب الهدي ؟ فقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " . وفي رواية عنه في صحيح مسلم : " اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا " اهـ . فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف ، إذا ألجأت إليه الضرورة ، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي ، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، عند جماهير أهل العلم . ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      أما حجة من قال : بوجوب ركوب الهدي ، فهي ظاهرة السقوط ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يركب هديه كما هو معلوم . وأما حجة من أجاز الركوب مطلقا ، فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويلك اركبها " ، وقوله تعالى : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى [ 22 \ 33 ] ، على أحد التفسيرين ، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر ; لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك ، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفا فهو أخص نص في محل النزاع ، فلا ينبغي العدول عنه ، والعلم عند الله تعالى ، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها ، عن ولدها لا بأس به ; لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها . وقال بعض أهل العلم : إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك فعليه قيمة النقص يتصدق بها . وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما قلنا : إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة " اركبها " ، وهي مقلدة نعلا ، وقد صرح له تصريحا مكررا بأنها بدنة ، ولم يستفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مرارا . وقد أشار إليه في [ ص: 178 ] " مراقي السعود " بقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال



                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية