فقد بينت هذه الآية أن من الزنى ، واللواط لازم ، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك . حفظ الفرج
وقد بينا في سورة " البقرة " أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن ، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة ، وقد أوضحنا الكلام على آية : وطء زوجته في الدبر والذين هم لفروجهم [ 23 \ 5 ] ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم ، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة " الأحزاب " ، وذلك في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلى [ ص: 507 ] قوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] ، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأوضح لزوم ، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة حفظ الفرج عن اللواط قوم لوط ; كقوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ، وقوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة " هود " ، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة .
واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ; كما قال تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون الآية [ 23 \ 5 ] ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن ، اهـ منه . " : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال في الكشاف : من للتبعيض والمراد الزمخشري ، والاقتصار به على ما يحل ، وجوز غض البصر عما يحرم الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه ، فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ، وصدورهن ، وثديهن ، وأعضادهن ، وأسوقهن ، وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء . سيبويه
[ ص: 508 ] وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار ، اهـ كلام . الزمخشري
وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر ، بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط ، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنى ، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى ، وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة " الأحزاب " ، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .
وقول : إن من في قوله : الزمخشري يغضوا من أبصارهم للتبعيض ، قاله غيره ، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن لا حرج فيها ، وعليه أن يغض بصره بعدها ، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل ، وما ذكره نظرة الفجاءة عن الزمخشري الأخفش ، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة ، لا يعول عليه . وقال القرطبي : وقيل الغض : النقصان ، يقال : غض فلان من فلان ، أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو موضوع منه ومنقوص ، فـ من صلة للغض ، وليست للتبعيض ، ولا للزيادة ، اهـ منه .
والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقول عنترة :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وقول الآخر :
وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان
لأن قوله : غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف .
[ ص: 509 ] ومن أمثلة تعدي الغض بـ من قوله تعالى : يغضوا من أبصارهم و يغضضن من أبصارهن وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله ، ولم يغض بصره عن الحرام ، وهي قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين [ 40 \ 19 ] .
وقد قال - رحمه الله - : وقال البخاري ، سعيد بن أبي الحسن للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن ، قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله - عز وجل - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال قتادة : عما لا يحل لهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه ، اهـ محل الغرض منه بلفظه .
وبه تعلم أن قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين فيه الوعيد لمن ، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة . يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له
منها : ما ثبت في الصحيح ، عن - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبي سعيد الخدري يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال " : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " حق الطريق ، انتهى ، هذا لفظ " : إياكم والجلوس بالطرقات " ، قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال " : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ، قالوا : وما في " صحيحه " . البخاري
ومنها ما ثبت في الصحيح عن - رضي الله عنهما - قال : عبد الله بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل بن عباس الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، الحديث . أردف النبي - صلى الله عليه وسلم -
ومحل الشاهد منه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل عن النظر إليها ، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز ، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث ، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في [ ص: 510 ] الكلام على مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .
ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن تكون به زانية ، فقد ثبت في الصحيح عن نظر العين إلى ما لا يحل لها ، أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، اهـ ، هذا لفظ " : إن الله كتب على ابن ، والحديث متفق عليه ، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا . البخاري
ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - ، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة . " : فزنى العين النظر "
ومعلوم أن فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه ، والعياذ بالله ، فالنظر بريد الزنى ، وقال النظر سبب الزنى مسلم بن الوليد الأنصاري :
كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا
ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى
وقال آخر :
ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف
وقال آخر :
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال : أبو الطيب المتنبي
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
وقد ذكر - رحمه الله - في كتابه " ذم الهوى " فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه ، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء ، والحكم النثرية [ ص: 511 ] في ذلك وكله معلوم ، والعلم عند الله تعالى . ابن الجوزي