المسألة الخامسة : جمهور العلماء على أن : القتل له ثلاث حالات
الأولى : العمد ، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا .
والثانية : شبه العمد . والثالثة : الخطأ .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، وأحمد ، . ونقله في المغني عن والشافعي عمر وعلي رضي الله عنهما ، والشعبي والنخعي ، وقتادة وحماد ، وأهل العراق ، وغيرهم . والثوري
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال : القتل له حالتان فقط . الأولى : العمد ، والثانية الخطأ . وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد . واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطأ ، بل [ ص: 100 ] ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما ، كقوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله الآية [ 4 \ 92 ] ، ثم قال في العمد : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه الآية [ 4 \ 93 ] ، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة ، وكقوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم الآية [ 33 \ 5 ] ، فلم يجعل فيها بين الخطأ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل .
واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض ، والعمد المحض ، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين :
الأول أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر ; لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالبا ، وهو قاصد للضرب معتقدا أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب ، ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل ، لأنه ما كان يقصد القتل ، بل وقع القتل من غير قصده إياه .
والثاني : حديث دل على ذلك ، وهو ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا سليمان بن حرب ومسدد - المعنى - قالا : حدثنا حماد ، عن خالد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن عمرو مسدد : بمكة ، فكبر ثلاثا ثم قال : " لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ( إلى ها هنا حفظته عن مسدد ، ثم اتفقا ) : ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت - ثم قال - ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها ، وحديث خطب يوم الفتح مسدد أتم .
حدثنا ، ثنا موسى بن إسماعيل وهيب ، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه .
حدثنا مسدد ، ثنا عبد الوارث ، عن ، عن علي بن زيد القاسم بن ربيعة ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال : ابن عمر مكة - على درجة البيت أو الكعبة . خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح - أو فتح
قال أبو داود : كذا رواه أيضا عن ابن عيينة ، عن علي بن زيد القاسم بن ربيعة ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ابن عمر
[ ص: 101 ] ورواه ، عن أيوب السختياني القاسم بن ربيعة ، عن ، ومثل حديث عبد الله بن عمرو خالد رواه ، عن حماد بن سلمة علي بن يزيد ، عن يعقوب السدوسي ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم اه محل الغرض من سنن عبد الله بن عمرو أبي داود .
وأخرج نحوه ، وذكر الاختلاف على النسائي أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه ، وذكر الاختلاف على فيه وأطال الكلام في ذلك ، وقد تركنا لفظ كلامه لطوله . خالد الحذاء
وقال رحمه الله في سننه : حدثنا ابن ماجه ، حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا شعبة ، عن أيوب : سمعت القاسم بن ربيعة ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عبد الله بن عمرو " . قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل : أربعون منها خلفة في بطونها أولادها
حدثنا ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن خالد الحذاء القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه . عبد الله بن عمرو
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، ثنا ، عن سفيان بن عيينة ابن جدعان ، سمعه من القاسم بن ربيعة عن : ابن عمر مكة وهو على درج الكعبة ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : " الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل : منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " . اه . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث ، وقال بعد أن ذكر الرواية عن التي في إسنادها ابن عمر : أخبرنا علي بن زيد بن جدعان أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول : سمعت يقول : حضرت مجلس محمد بن إسحاق بن خزيمة المزني يوما ، وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد ، فقال السائل : إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين : عمدا وخطأ ، فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف ؟ ولم قلتم شبه العمد ؟
فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره : أتحتج ؟ فسكت بعلي بن زيد بن جدعان المزني فقلت لمناظره : قد روى هذا الخبر غير . فقال : ومن رواه غير علي بن زيد علي ؟ قلت : رواه أيوب السختياني . قال لي : فمن وخالد الحذاء عقبة بن أوس ؟ فقلت : عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة ، وقد رواه عنه مع جلالته . فقال [ ص: 102 ] محمد بن سيرين للمزني : أنت تناظر أو هذا ؟ فقال : إذا جاء الحديث فهو يناظر . لأنه أعلم بالحديث مني ، ثم أتكلم أنا ، اه . ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور .
قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد أن الحديث ثابت من حديث ، وأن الرواية عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهم ، وآفتها من ابن عمر ، لأنه ضعيف . علي بن زيد بن جدعان
والمعروف في علوم الحديث : أن الحديث إذا جاء صحيحا من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح ، والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة للعراقي الذي ناظر محمد بن إسحاق بن خزيمة المزني تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند . ابن خزيمة
قال مقيده عفا الله عنه : إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل : هل هي ثلاث ، أو اثنتان ؟ وعرفت حجج الفريقين فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات : عمد محض ، وخطأ محض ، وشبه عمد ، لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك ، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين . والحديث إنما أثبت شيئا سكت عنه القرآن ، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة ، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا رحمه الله ; لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد ، كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنعام " . ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة ، خلافا أبا حنيفة لمالك كما تقدم .
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث ، فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص . وقد قدمنا حكم العفو فيه . والخطأ شبه العمد . والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة .