اعلم أولا أن ، واستظهر لفظة " لعل " تكون للترجي في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور أبو حيان في البحر المحيط أن " لعل " في قوله هنا : فلعلك باخع نفسك للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به .
وقال بعضهم : إن " لعل " في الآية للنهي . وممن قال به العسكري ، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط .
وعلى هذا القول فالمعنى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . وقيل : هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار . وإتيان " لعل " للاستفهام مذهب كوفي معروف .
وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى " لعل " أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم .
وإطلاق " لعل " مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام .
ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحا عن ذلك ; كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : ولا تحزن عليهم [ ص: 202 ] [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والباخع : المهلك ; أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ، ومنه قول : ذي الرمة
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
كما تقدم .
وقوله : على آثارهم ، قال القرطبي : " آثارهم " جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك .
وقال أبو حيان في البحر : ومعنى " على آثارهم " : من بعدهم ، أي بعد يأسك من إيمانهم ، أو بعد موتهم على الكفر ، يقال : مات فلان على أثر فلان ; أي بعده .
وقال : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم - برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم . والأسف هنا : شدة الحزن . وقد يطلق الأسف على الغضب ; كقوله : الزمخشري فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 \ 55 ] .
فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من ، ومن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة ، كقوله : شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وكقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] ، وكقوله : ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وكقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، وكقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وكقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] كما قدمناه موضحا .
وقوله في هذه الآية الكريمة : أسفا مفعول من أجله ، أي مهلك نفسك من أجل الأسف . ويجوز إعرابه حالا ; أي في حال كونك آسفا عليهم . على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع