( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) أي ذلكم الأمر باتباع صراط الحق المستقيم ، والنهي عن سبيل الضلالات والأباطيل المعوجة ، وهو جامع الوصايا النافعة البعيدة المرمى ، الموصل إلى ما لا يحيط به الوصف من السعادة العظمى ، وصاكم الله به ليعدكم ويهيئكم لما يرجى لكل من اتبعه من اتقاء كل ما يشقيه ويرديه في دنياه وآخرته . قال أبو حيان : ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف ، وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار ; إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية .
وأقول : إن كلمة التقوى تشمل كل ما يتقى من الضرر العام والخاص مهما يكن نوعه وقد ذكرت في التنزيل في سياق الأوامر والنواهي المختلفة من عبادات ومعاملات ، وآداب وقتال ، وسنن اجتماع ، وطعام وشراب ، وعشرة وزواج وغير ذلك ، فهي تفسر في كل موضع بحسبه كما بيناه من قبل . وهي في هذا الموضع تشمل جميع الأنواع لأنها جاءت في سياق اتباع صراط الله المستقيم الشامل لجميع أنواع الهداية الشخصية والاجتماعية .
وقد أشرت إلى موضع ختم الآية التي قبل هذه بالذكر والتذكر وما قبلهما بالعقل . وبعد تفسير الآيات كلها راجعت ما لدي من كتب التفسير فرأيت السيد قد أتى بما لم يأت به غيره مما قاله علماء البلاغة في نكت هذه الخواتيم للآيات الثلاث وهذا نصه :
وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه : ( لعلكم تعقلون ) وهذه بقوله تعالى ( لعلكم تذكرون ) لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك وقتل الأولاد وقربان الزنا وقتل النفس المحرمة بغير حق ( غير ) مستنكفين ولا عاقلين قبحها ، فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها ، وأما حفظ أموال اليتامى عليهم وإيفاد الكيل والعدل في القول والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به ، فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان ، قاله القطب الرازي ثم قال : فإن قلت : إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا ، فكيف ذكر من الأول ؟ قلت : أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ، ويتلوه الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ، ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر ، فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة [ ص: 175 ] الأبوين ، تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى ألا يرتكبوا الكفر .
وقال الإمام ( الرازي ) : السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية ، فوجب تعقلها وتفهمها . والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر . انتهى .
( قال الآلوسي ) : ويمكن أن يقال إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع ، والمرء حريص على ما منع ، فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس ، وهذا بخلاف التكليفات الأخر ; فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي ، فيكون تأكيدات الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر اهـ .
وإننا نختم هذه الوصايا العظيمة الشأن بأحاديث وردت فيها نقلا عن الدر المنثور ، أخرج الترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن قال : من سره أن ينظر إلى وصية ابن مسعود محمد الذي عليه خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) إلى قوله : ( لعلكم تتقون ) وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عبادة بن الصامت قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) إلى ثلاث آيات - ثم قال : فمن وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ، إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " وأخرج أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ - ثم تلا ( ، عبد بن حميد وأبو عبيد ، وابن المنذر ، عن منذر الثوري قال : قال : أيسرك أن تلقى صحيفة من الربيع بن خيثم محمد صلى الله عليه وسلم بخاتم ؟ قلت : نعم ، فقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة الأنعام ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) إلى آخر الآيات .
وأخرج أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن قال : علي بن أبي طالب لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب ، خرج إلى منى وأنا معه وأبو بكر وكان أبو بكر رجلا نسابة ، فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى فسلم عليهم وردوا السلام ، وكان في القوم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة ، والمثنى بن حارثة ، والنعمان بن شريك وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق ، وكان مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا ، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله ، وأن تؤووني وتنصروني [ ص: 176 ] وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرني به ، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله ، واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد ، قال له : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا ) إلى قوله : ( تتقون ) فقال له مفروق : وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ، ولو كان من كلامهم لعرفناه . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) ( 16 : 90 ) الآية . فقال له مفروق : دعوت والله يا قرشي إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك . وقال هانئ بن قبيصة : قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش ويعجبني ما تكلمت به . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم - يعني أرض فارس وأنهار - ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال له كسرى النعمان بن شريك : اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) ( 33 : 45 ، 46 ) الآية . ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يد أبي بكر .