الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما اليتامى والمساكين وابن السبيل فدول هذا العصر لا تجعل لهم حقا في أموال الدولة بهذه العناوين والألقاب ، ولكن الدول المنظمة التي تعنى بأمور الشعب تخصص للفقراء الذين لا يجدون أعمالا يرزقون منها مالا يكفيهم . وبعض الحكومات تعطي هؤلاء المحتاجين إعانات من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها ، وإنفاق ريعها على المستحقين له .

                          هذا هو المدرك الظاهر لقسمة خمس الغنيمة ، وتوجيه بما يقرب من نظم بعض حكومات العصر ، وقد توسع في هذا التوجيه لمصارف الخمس وغير الخمس من أموال الدولة الإسلامية العلامة الهندي الأكبر ، الملقب بمجدد الألف الثاني عشر ، الشيخ ولي الله الدهلوي في كتابه الحجة البالغة فقال رحمه الله : ( واعلم ) أن الأموال المأخوذة من الكفار على قسمين : ما حصل منهم بإيجاف الخيل والركاب ، واحتمال أعباء القتال وهو الغنيمة ، وما حصل منهم بغير قتال كالجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجارهم ، وما بذلوا صلحا أو هربوا عنه فزعا . فالغنيمة تخمس ، ويصرف الخمس إلى ما ذكر الله تعالى في كتابه حيث قال : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيوضع سهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده في مصالح المسلمين الأهم فالأهم ، وسهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب الفقير منهم والغني ، والذكر والأنثى . وعندي أنه يخير الإمام في تعيين المقادير ، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يزيد في فرض آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بيت المال ويعين [ ص: 11 ] المدين منهم والناكح وذا الحاجة ، وسهم اليتامى لصغير فقير لا أب له ، وسهم الفقراء والمساكين لهم ، يفوض كل ذلك إلى الإمام يجتهد في الفرض ، وتقديم الأهم فالأهم ، ويفعل ما أدى إليه اجتهاده ، ويقسم أربعة أخماسه في الغانمين .

                          يجتهد الإمام ( أولا ) في حال الجيش ، فمن كان نفله أوفق بمصلحة المسلمين نفل له ، وذلك بإحدى ثلاث : ( أولاها ) أن يكون الإمام دخل دار الحرب فبعث سرية تغير على قرية مثلا فيجعل لها الربع بعد الخمس أو الثلث بعد الخمس ، فما قدمت به السرية رفع خمسه ثم أعطى السرية ربع ما غبر أو ثلثه وجعل الباقي في المغانم .

                          ( وثانيتها ) أن يجعل الإمام جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين ، مثل أن يقول : من طلع هذا الحصن فله كذا ، من جاء بأسير فله كذا ، من قتل قتيلا فله سلبه ، فإن شرط من مال المسلمين أعطى منه ، وإن شرط من الغنيمة أعطى من أربعة أخماس .

                          ( وثالثتها ) أن يخص به الإمام بعض الغانمين بشيء لعنائه وبأسه كما أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم الفارس والراجل ، حيث ظهر منه نفع عظيم للمسلمين . والأصح عندي أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإمام قبل القتل أو تنفيله بعده ، ويرفع ما ينبغي أن يرضخ دون السهم للنساء يداوين المرضى ، ويطبخن الطعام ، ويصلحن شأن الغزاة ، وللعبيد والصبيان وأهل الذمة الذين أذن لهم الإمام إن حصل منهم نفع للغزاة ، وإن عثر على أن شيئا من الغنيمة كان مال مسلم ظفر به العدو رد عليه بلا شيء ، ثم يقسم الباقي على من حضر الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم . وعندي أنه إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين بشيء دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ، ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله ، وبه يجمع ( بين ) اختلاف سير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ في الباب ، ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له ، وإن لم يحضر الوقعة كما كان لعثمان يوم بدر .

                          " وأما الفيء فمصرفه ما بين الله تعالى حيث قال : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إلى قوله : رءوف رحيم [ ص: 12 ] ( 59 : 7 - 10 ) ولما قرأها عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : هذه استوعبت المسلمين فيصرفه إلى الأهم فالأهم ، وينظر في ذلك إلى مصالح المسلمين لا مصلحته الخاصة به .

                          " واختلفت السنن في كيفية قسمة الفيء ، فكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أتاه الفيء قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين ، وأعطى الأعزب حظا ، وكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يقسم للحر وللعبد يتوخى كفاية الحاجة ، ووضع عمر ـ رضي الله عنه ـ الديوان على السوابق والحاجات ، فالرجل وقدمه والرجل وبلاؤه ، والرجل وعياله ، والرجل وحاجته ، والأصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه إنما فعل ذلك على الاجتهاد فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته .

                          " والأراضي التي غلب عليها المسلمون للإمام فيها الخيار إن شاء قسمها في الغانمين ، وإن شاء أوقفها على الغزاة كما فعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخيبر قسم نصفها ، ووقف نصفها ، ووقف عمر ـ رضي الله عنه ـ أرض السواد ، وإن شاء أسكنها الكفار ذمة لنا ، وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا ـ رضي الله عنه ـ أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ، وفرض عمر ـ رضي الله عنه ـ على الموسر ثمانية وأربعين درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرين ، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر . ومن هنا يعلم أن قدره مفوض إلى الإمام يفعل ما يرى من المصلحة ، ولذلك اختلفت سيرهم . وكذلك الحكم عندي في مقادير الخراج ، وجميع ما اختلفت فيه سير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه ـ رضي الله عنهم ـ وإنما أباح الله لنا الغنيمة والفيء لما بينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال : لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا ذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إن الله فضل أمتي على الأمم وأحل لنا الغنائم وقد شرحنا هذا في القسم الأول فلا نعيده .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية