الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وإن يريدوا أن يخدعوك بجنوحهم للسلم ، ويفترضوه لأجل الاستعداد للحرب ، أو انتظار غرة تمكنهم من أهل الحق فإن حسبك الله أي : كافيك أمرهم من كل وجه " حسب " تستعمل بمعنى الكفاية التامة ، ومنها قولهم : أحسب زيد عمرا ، أو أعطاه حتى أحسبه ، أي أجزل له وكفاه ، حتى قال : حسبي ، أي لا حاجة لي في الزيادة . وقال المدققون من النحاة : إنها صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل من أحسبه ، ومنه قول البيضاوي وغيره في تفسيرها هنا ، أي محسبك وكافيك قال جرير :


                          إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا

                          ثم بين تعالى أن هذه الكفاية بالتأييد الرباني ، وأن منه تسخير المؤمنين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصره فقال : هو الذي أيدك بنصره [ ص: 61 ] بتسخير الأسباب ، وما هو وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب في يوم بدر ( وبالمؤمنين ) من المهاجرين والأنصار ، وروي أن المراد بهم الأنصار بدليل قوله : وألف بين قلوبهم أي : بعد التفرق والتعادي الذي رسخ بالحرب الطويلة والضغائن الموروثة ، وجمعهم على الإيمان بك ، وبذل النفس والنفيس في مناصرتك .

                          قال أصحاب القول الثاني : كان هذا بين الأوس والخزرج من الأنصار ، ولم يكن منه شيء بين المهاجرين ، أي وفيهم نزلت : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( 3 : 103 ) إلخ . ولكن هذا لا يمنع إرادة مجموع المهاجرين والأنصار ، فقد كانوا بنعمته إخوانا لم يقع بينهم تحاسد ولا تعاد كما هو شأن البشر في مثل هذا الشأن ، كما ألف بين الأوس والخزرج فكانوا بنعمته إخوانا بعد طول العداء والعدوان ، وقد كاد يقع التغاير بين المهاجرين والأنصار عند قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان عدد المهاجرين في غزوة بدر ثمانين رجلا أو زيادة كما ذكر الحافظ في فتح الباري ، وكان الباقون من الأنصار وهم تتمة ثلاثمائة وبضعة عشر . والعمدة في إرادة الفريقين أن التأييد بالفعل والنصر حصل بكل منهما في جميع الوقائع ، وكان المهاجرون في المرتبة الأولى في كل شيء لسبقهم إلى الإيمان والعلم ، ونصر الله ورسوله في زمن القلة والشدة والخوف ، وقد أسند إليهم هذا النصر في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير عند ذكر مراتب المؤمنين ، فقال في قسمة فيئهم : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( 59 : 8 ) ثم قال في الأنصار : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 59 : 9 ) إلى آخر الآية ، وهي دليل على أن النصر ينال بالأسباب ، وأن ذلك يتوقف على التآلف والاتحاد ، وكل ذلك بفضل مقدر الأسباب ورحمته بالعباد ، ولذلك قال : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان ، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان ، لما أمكنك يا محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية ، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف ، أما الأنصار فلأن الأضغان الموروثة ، وأوتار الدماء المسفوكة ، وحمية الجاهلية الراسخة ، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة ، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة ، وأما المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم ، وسادتهم ومواليهم ، وأشرافهم ودهمائهم ، على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية ، وجمع [ ص: 62 ] كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله ، لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا - ولم يكن في يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء منهما في أول الإسلام ، ولكن صار بيده في المدينة شيء عظيم منهما بنصر الله له في قتال المشركين واليهود جميعا - وأما مجموع المهاجرين والأنصار فقد كان اجتماعهما لولا فضل الله وعنايته مدعاة التحاسد والتنازع ، لما سبق لهما من عصبية الجاهلية ، وما كان لدى المهاجرين من مزية قرب الرسول والسبق إلى الإيمان به ، وما لدى الأنصار من المال والقوة وإنقاذ الرسول والمهاجرين جميعا من ظلم قومهم ، ومن المنة عليهم بإيوائهم ومشاركتهم في أموالهم ، وفي هذا وذاك من دواعي التغاير والتحاسد ما لا يمكن أن يزول بالأسباب الدنيوية ، فهو تعالى يقول للرسول : لست أنت المؤلف بينهم ،ولكن الله ألف بينهم بهدايتهم إلى هذا الإيمان بالفعل ، الذي دعوتهم إليه بالقول إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( 28 : 56 ) وإنما عليك البلاغ ، وهداية الدعوة والبيان وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 42 : 52 ) بالدعاية ، وتدعو الله أنت ومن آمن معك بقوله : اهدنا الصراط المستقيم ( 1 : 6 ) أي بالفعل والتوفيق والعناية . وهذا ثناء من الله عز وجل على صحابة رسوله تفند مطاعن الرافضة الضالة الخاسرة فيهم .

                          لا يوجد سبب للتوحيد والتعاون بين البشر كالتآلف والتحاب ، ولا يوجد سبب للتحاب والتآلف كأخوة الإيمان . قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ، وقرأ الآية . رواه البيهقي ، ورواه عبد الرزاق والحاكم عنه بلفظ : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم قرأ : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم الآية .

                          وقد ورد من الأحاديث في التحاب في الله ما ينبئ بشأن هذه الفضيلة ، ويرغب فيها ، واتفق حكماء البشر غابرهم وحاضرهم على أن المحبة أعظم الروابط بين البشر ، وأقوى الأسباب لسعادة الاجتماع الإنساني وارتقائه . واتفقوا أيضا على أن المحبة إذا فقدت لا يحل محلها شيء في منع الشر ، والوقوف عند حدود الحق ، إلا فضيلة العدل . ولما كانت وهمية غير اختيارية ، وكان العدل من الأعمال الكسبية ، جعل الإسلام المحبة فضيلة والعدل فريضة ، وأوجبه لجميع الناس في الدولة الإسلامية ، وحكومتها الشرعية ، لا يختص به مسلم دون كافر ، ولا بر دون فاجر ، ولا قريب من الحاكم دون بعيد ، ولا غني دون فقير ، وتقدم تفصيل هذا في تسفير الآيات المقررة له [ ص: 63 ] وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله : إنه عزيز حكيم ؛ لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء ، وتأييده بنصره وبالمؤمنين ، لا للتأليف بين المؤمنين ، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد ، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ، ولا كيد الماكرين ، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل ، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم ، ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله : " إنه رءوف رحيم " على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية