لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ ص: 20 ] قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا هو النداء الإلهي السادس للمؤمنين في هذه السورة ، وهو في إرشادهم إلى القوة المعنوية للمقاتلين التي هي السبب الغالب للنصر والظفر . والفئة الجماعة ، وغلبت في جماعة المقاتلين والحماة الناصرين ، ولم يستعمل في التنزيل إلا بهذا المعنى حتى قوله تعالى في سورة النساء : فما لكم في المنافقين فئتين ( 4 : 88 ) فإن المختلفين في شأنهم منهم من كان يقول بوجوب قتالهم ، لظهور نفاقهم وبقائهم على شركهم ، ومنهم من يقول بضده ، فهي في موضوع القتال . ومنه قوله تعالى في سورة الكهف : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ( 18 : 43 ) ومثله في سورة القصص . واللقاء يكثر استعماله في لقاء القتال أيضا ، حتى قال : إنه غالب فيه . وتبعه كثيرون وكون اللقاء هنا لفئة يعين هذا المعنى الغالب ، ويبطل احتمال إرادة غيره . الزمخشري
والمعنى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار ، وكذا البغاة في القتال فاثبتوا لهم ، ولا تفروا من أمامهم - ولم يصف الفئة للعلم بوصفها من قرينة الحال ، وهي أن المؤمنين لا يقاتلون إلا الكفار أو البغاة - فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلب بين الأفراد أو الجيوش : يتصارع الرجلان الجلدان فيعيا كل منهما ، وتضعف منته ، ويتوقع في كل لحظة أن يقع صريعا فيخطر له أن خصمه ربما وقع قبله فيثبت ، حتى يكون بثبات الدقيقة الأخيرة هو الصرعة الظافر ، وكذلك كان جلاد فريقي دول أوربة في الحرب الأخيرة . فقد كل فريق منهما جميع نقوده ، ونقص عتاد حربه ، ووهنت قوى جنوده ، ومادة غذائه ، وهو يقول : " إلى الساعة الأخيرة " حتى كان فريق الحلف البريطاني الفرنسي ومن معه يستغيث دولة الولايات المتحدة ، ويسألونها تعجيل الغوث بالأيام والساعات ، لا بالشهور والأسابيع ، ثم كان له الغلب بأسباب أهمها وآخرها الثبات ، وعدم اليأس مما ذاقوا من بأس . فالحلف الألماني في الحرب ومخترعاتهم فيها من المدافع الضخمة والطيارات تمطرهم العذاب من فوق رءوسهم ، والغواصات تنسف بواخرهم وبوارجهم من أسفل منها إلخ . وكذلك يفيد الثبات في كل أعمال البشر فهو وسيلة النجاح في كل شيء .
واذكروا الله كثيرا أي : وأكثروا من ذكر الله في أثناء القتال وتضاعيفه ، اذكروه في قلوبكم بذكر قدرته ، ووعده بنصر رسله والمؤمنين ، ونصر كل من يتبع سننهم بنصر دينه ، وإقامة سننه ، وبذكر نهيه لكم عن اليأس مهما اشتد البأس ، وبأن النصر بيده ومن عنده ، ينصر من يشاء ، وهو القوي العزيز ، فمن ذكر هذا ، وتأمل فيه لا تهوله قوة عدوه واستعداده ، لإيمانه بأن الله تعالى أقوى منه - واذكروه أيضا بألسنتكم موافقة لقلوبكم بمثل التكبير الذي [ ص: 21 ] تستصغرون بملاحظة معناه كل ما عداه ، والدعاء والتضرع إليه عز وجل مع اليقين بأن لا يعجزه شيء .
لعلكم تفلحون هذا الرجاء منوط بالأمرين كليهما ، أي : إن الثبات وذكر الله تعالى هما السببان المعنويان للفلاح والفوز في القتال في الدنيا ، ثم في نيل الثواب في الآخرة ، أما الأول فظاهر ، وقد بينا مثاله من الوقائع البشرية . وأما الثاني فأمثلته أظهر وأكثر ، ومن أظهرها ما نزلت هذه الآية في سياقه ، وهذه السورة بجملتها في بيان حكمه وأحكامه وسنن الله فيه وهو غزوة بدر الكبرى ، وقد تقدم بيانه ، وقد كان الكفار يمترون في كون الإيمان - ولا سيما الصحيح وهو إيمان التوحيد الخالي من الخرافات ، وما يستلزمه من التوكل على الله تعالى في الشدائد ودعائه واستغاثته - من أسباب النصر في الحرب ، ولكن هذا قد صار معروفا عند علماء الاجتماع وفلسفة التاريخ ، وعلم النفس وعند قواد الجيوش ، وزعماء السياسة ، ومما ذكروا من أسباب فلج البوير على الإنكليز في وقائع كثيرة في حرب الترنسفال أن التدين في مقاتلتهم أكثر وأقوى منه في الجنود الإنكليزية .
وثبت أنه كان من أسباب انتصار الجيش البلغاري على الجيش التركي في حرب البلقان المشهورة ، ما كان من إبطال القواد والضباط من الترك للآذان والصلاة من الجيش ، والدعاية التي بثوها فيه من وجوب الحرب للوطن ، وباسم الوطن ، ولشرف الوطن - فلما علموا بهذا أعادوا المؤذنين والأئمة بعمائمهم إلى كل تابور ، وأقاموا الصلاة فيهم . وقد روت الجرائد أن العساكر لما سمعت الأذان صارت تبكي بكاء بنشيج عال كان له تأثير عظيم ، وكان تأثير ذلك بعود الكرة لهم على البلغار ظاهرا ، وقد ذكرنا هذين الشاهدين في المنار كل واحد في وقته ، وسوف يرى الترك سوء عاقبة كفر حكومتهم ، ومحاولتها إفساد دين شعبها عليه .
وقد نشرنا في ( ص846 و847 ) من مجلد المنار الأول حديثا للبرنس بسمارك وزير ألمانية ومؤسس وحدتها ، الذي انتهت إليه زعامة السياسة والتفوق في أوربة على جميع ساسة الأمم في عصره ، قال فيه : إن من تأثير الإيمان في قلوب الشعب ذلك الشعور الذي ينفذ إلى أعماق القلوب باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن ولو لم يكن هناك أمل في المكافأة ، وعلله بقوله : " ذلك لما استكن في الضمائر من بقايا الإيمان ، ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدا مهيمنا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه " .
فقال له بعض المرتابين : أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة ؟ فأجابه البرنس : ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان ، هو بوادر [ ص: 22 ] تسبق الفكر ، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها - ولو أنهم لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان .
" هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم ، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات ، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم - إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي ، واعتقاد بإله يحب الخير ، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة ؟ .
ثم ساق الوزير كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر وهو الكلام عن نفسه ، فشرح للمخاطبين أنه لولا إيمانه بالله وبالجزاء في الآخرة لما كان يخدم سلطانه وحكومته ، ولما أجهد نفسه بتأسيس الوحدة الألمانية ، وتشييد عظمتها ، وأنه يفضل العيشة الخلوية في مزارعه على خدمة القيصر ( الإمبراطور ) ؛ لأنه هو جمهوري بالطبع إلخ . والشاهد في كلامه تأثير الإيمان في القتال ، وإنما زدنا هذا من كلامه ؛ لأنه حجة على ملاحدتنا دعاة التجديد بترك الدين اتباعا بزعمهم الكاذب لأهل أوربة .
هذا وإن الله تعالى قد أمر عباده المؤمنين بالإكثار من ذكره وحثهم عليه ، ووصف الصادقين به في آيات أخرى كما وصف المنافقين بقلته ؛ لأن الذكر غذاء الإيمان فلا يكمل إلا بكثرته ، فمن غفل عن ذكره تعالى استحوذ الشيطان على قلبه ، وزين له الشرور والمعاصي . كلمة بليغة في هذا الأمر بالذكر هنا وفي السلف الصالح ، وما كانوا عليه من الاهتداء به قال : وفيه إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلبا ، وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك ، وإن كانت متوزعة عن غيره ، وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين ، وفي مشاهده مع البغاة والخوارج من البلاغة والبيان ، ولطائف المعاني ، وبليغات المواعظ والنصائح دليل على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر اهـ . وللزمخشري