ثم أنذر الله تعالى أولئك الخائنين بالفعل ما سيحل بهم فقال : ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ( يحسبن ) بالمثناة التحتية والباقون بالفوقية ، وهذه القراءة أظهر ، ومعناها : ولا تحسبن أيها الرسول أن هؤلاء الذين كفروا قد سبقوا بخيانتهم لك ، ونقضهم لعهدك بالسر مرة بعد مرة بأن أفلتوا من عقابنا متحصنين بعهدهم الذي يمنعك من قتالهم ومثله قوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ( 29 : 4 ) - وأما القراءة الأولى فمعناها : ولا يحسبن حاسب أو أحد أن الذين كفروا قد سبقوا بما ذكر من نقضهم للعهد ، ومظاهرتهم لأهل الشرك في الحرب - أو لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقونا ، ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم ، وقد علل هذا النهي بقوله عز وعلا : إنهم لا يعجزون قرأه الجمهور بكسر " إن " على الاستئناف وابن عامر بفتحها بتقدير " لأنهم " وحذف لام التعليل مطرد في مثل هذا . والمعنى : أنهم لا يعجزون الله تعالى بمكرهم وخيانتهم لرسوله بمساعدة المشركين عليه ، بل هو سيجزيهم ويسلط رسوله والمؤمنين عليهم ، فيذيقونهم عاقبة كيدهم . وهذا كما قال في نبذ عهود المشركين في أول سورة ( براءة ) واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ( 9 : 2 ) فهو قد أعلم رسوله بخيانتهم ، وأذن لهم بنبذ عهدهم ، ليحل له مناجزتهم القتال جزاء على مساعدتهم لأعدائه عليه وإغرائهم بقتاله .
وفي هذه الآية دليل على أن : وما حرمه من الخيانة لهم فيها ، وما شرعه من العدل والصراحة في معاملتهم - ليس عن ضعف ولا عن عجز ، بل عن قوة وتأييد إلهي ، وقد نصر الله تعالى المسلمين على ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع المحالفين من أعدائه المخالفين له في الدين اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم ، وثبت بهذا أن قتال المسلمين لهم وإجلاءهم لبقية السيف منهم من جوار عاصمة الإسلام ثم من مهده ومعقله ( الحجاز ) كان عدلا وحقا . ( فصول في المدينة في السلم والحرب ) المعاملة بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويهود
نختم تفسير هذه الآيات بما شرحه المحقق ابن القيم لهذه المسألة في كتاب الهدي النبوي إتماما لما فسرنا به الآيات ، وإثباتا له بالوقائع والبينات ، قال رحمه الله تعالى : [ ص: 47 ] ( فصل ) ولما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه ، ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ، ولم يحاربوه بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ، ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره ، وانتصاره في الباطن ، ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم ، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن ، ليأمن الفريقين ، وهؤلاء المنافقون : فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى .
فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن ، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر ، وشرقوا بوقعة بدر وأظهروا البغي والحسد ، فسارت إليهم جنود الله يقدمهم عبد الله ورسوله يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من مهاجره ، وكانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين ، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وحامل لواء المسلمين يومئذ ، واستخلف على حمزة بن عبد المطلب المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة ، وهم أول من حارب من اليهود ، وتحصنوا في حصونهم ، فحاصرهم أشد الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم ، وقذفه في قلوبهم ، فنزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم فأمر بهم فكتفوا ، وكلم عبد الله بن أبي فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وألح عليه فوهبهم له ، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يجاوروه بها ، فخرجوا إلى أذرعات الشام فقل أن لبثوا فيها حتى هلك أكثرهم ، وكانوا صاغة وتجارا ، وكانوا نحو الستمائة مقاتل ، وكانت دارهم في طرف المدينة ، وقبض منهم أموالهم فأخذ منها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث قسي ودرعين وثلاثة أسياف وثلاثة رماح وخمس غنائمهم ، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة .