وبعد أن بين الله تعالى المرتبة العليا للمؤمنين التي ينبغي أن تكون لهم في حال القوة وهو ما يسمى بالعزيمة ، قفى عليه بيان ما دونها من مرتبة الضعف وهي ما يسمى الرخصة ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66nindex.php?page=treesubj&link=28979_28916الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين قرأ الجمهور : ضعفا بضم الضاد ،
وعاصم وحمزة بفتحها على أنه مصدر ، وعن
الخليل أن الضم لما كان في البدن ، والفتح لما كان في الرأي والعقل أو النفس . وقرأ
أبو جعفر ( وعلم أن فيكم ضعفاء ) جمع ضعيف ، وقد تقدم بيان حال ضعفاء المسلمين الذين كانوا يكرهون القتال في
بدر ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى في هذه السورة :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=6يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ( 8 : 6 ) فالضعف على هذا عام يشمل المادي والمعنوي ، والمعنى أن أقل حالة للمؤمنين مع الكفار في القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين ، وأن هذه الحالة رخصة خاصة بحال الضعف كما كان عليه المؤمنون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة
بدر ، فقد تقدم أن المؤمنين كانوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت ، ولم يكن لديهم إلا فرس واحد ، وأنهم خرجوا بقصد لقاء العير غير مستعدين للحرب ، ومع هذا كله كانوا أقل من ثلث المشركين الكاملي العدة والأهبة . ولما كملت للمؤمنين القوة ، كما أمرهم الله تعالى أن يكونوا في حال العزيمة ، كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم ، وهل تم لهم فتح
ممالك الروم والفرس وغيرهم إلا بذلك ؟ وكان القدوة الأولى في ذلك أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم في عهده ومن بعده ! كان الجيش الذي بعثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى
مؤتة من مشارف
الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله (
الحارث بن عمير الأزدي ) إلى أمير
بصرى ثلاثة آلاف ، وأقل ما روي في عدد الجيش الذي قاتلهم من
الروم ومنتصرة العرب مائة وخمسون ألفا ، وروى
الواحدي في البسيط أنه كان مائة ألف من
الروم ومائة ألف من عرب لخم وجذام ، فمن شك أو شكك في هذين العددين من المسلمين
والروم في هذه الغزوة ، فماذا يقول في وقعة
اليرموك [ ص: 69 ] الشهيرة ؟ روى المؤرخون أن الجموع التي جمعها
هرقل للمعركة الفاصلة فيها بينه وبين العرب من
الروم والشام والجزيرة وأرمينية كانت زهاء مائتي ألف ، وكان يأتيها المدد خشية الهزيمة ، وكان عدد جيش الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أربعة وعشرين ألفا ، ورووا أن قتلى
الروم بلغت سبعين ألفا - فمن شك أو مارى في العدد في هذه المعركة وغيرها من المعارك الفاصلة المعينة ، فهل يمكنه أن يماري في القدر المشترك في جملة المعارك التي فتح بها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تلك الممالك الواسعة على قلة عددهم ، وكونهم كانوا في مجموعها أو أكثرها أقل من عشر أعدائهم ؟ أنى وهو عين التواتر المعنوي الذي يفيد علم اليقين ؟ !
وأما قوله تعالى في تعليل هذا الغلب : بإذن الله فقد فسروه هنا بإرادته ومشيئته تعالى ، وأصل الإذن في اللغة إباحة الشيء والرخصة في فعله ، ولا سيما إذا كان الشأن فيه أن يكون ممنوعا فيكون حاصل الإذن إزالة المنع ، وهي إما أن تكون بالقول لمن يقدر على الفعل ، وإما أن تكون بالفعل لمن لا يقدر عليه ،
nindex.php?page=treesubj&link=20581فالإذن من الله تعالى إما أمر تكليف أو إباحة وترخيص وهو من متعلق صفة الكلام . فالأول - كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=39أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ( 22 : 39 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ( 4 : 64 ) والثاني كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ( 2 : 255 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=105يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ( 11 : 105 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وداعيا إلى الله بإذنه ( 33 : 46 ) - وإما أمر تكوين أي بيان لسنة الله تعالى أو فعله أو تقديره أو إقداره لمن شاء على ما شاء فيكون من متعلق الإرادة ومن متعلق القدرة كقوله تعالى
للمسيح عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني ( 5 : 110 ) وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=58والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ( 7 : 58 ) أي بقدرته وإرادته وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ( 2 : 249 ) أي بأقداره ومعونته وتوفيقه ، وفي معناها هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وقد ختم كلا منهما بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249والله مع الصابرين ( 2 : 249 ) وهذه المعية لا ندرك حقيقتها وكنهها ، وإنما نعلم علم يقين أن من كان الله تعالى معه فهو الغالب المنصور ولن يغلبه أحد ، فنفسرها بمعية المعونة والنصر ، كما تقدم في تفسير مثل هذه الجملة من الآية 46 من هذه السورة في سياق الحرب وغزوة
بدر ، وقد أحلت فيه على تفسير مثل تلك الجملة من سورة البقرة وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( 2 : 153 ) وقد قلت هناك : ثم قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153إن الله مع الصابرين ولم يقل معكم ، ليفيد أن معونته إنما تمدهم إذا صار الصبر وصفا لازما لهم . ومن المفيد أن يراجع القارئ تفسير تلك الآية [ في ص30 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ] فإنه يفيد في إتمام معنى ما هنا .
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية العزيمة من هاتين الآيتين منسوخة بآية الرخصة التي بعدها بدليل التصريح بالتخفيف فيها ، ولكن الرخصة لا تنافي العزيمة ، ولا سيما وقد عللت
[ ص: 70 ] هنا بوجود الضعف ، ونسخ الشيء لا يكون مقترنا بالأمر به وقبل التمكن من العمل به ، وظاهر أن الآيتين نزلتا معا . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفر واحد من عشرة ، فجاء التخفيف فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم اهـ . قال الحافظ في الفتح في شرح الجملة الأخيرة : كذا في رواية
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك ، وفي رواية
nindex.php?page=showalam&ids=17282وهب بن جرير عن أبيه عن
الإسماعيلي : نقص من النصر اهـ . وأقول : معنى الرواية الأولى أن الصبر في مقاتلة الضعفين دون الصبر في مقاتلة العشرة الأضعاف بهذه النسبة العددية . ومعنى الرواية الثانية أن النصر على الضعفين أقل أو أنقص من الصبر على العشرة الأضعاف ، وكلاهما لازم ضروري للآخر . وهذه الرواية لا تدل على النسخ الأصولي الذي زعمه بعضهم على ما بيناه من كون الآية الأولى عزيمة أو مقيدة بحال القوة ، والثانية رخصة مقيدة بحال الضعف ، وما رواه
ابن مردويه من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق ابن راهويه عن
عطاء عنه ، وفيه التصريح بالنسخ ، قال الحافظ : في سنده
محمد بن إسحاق وليست هذه القصة عنده مسندة بل معضلة وصنيع
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق وتبعه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني وابن مردويه يقتضي أنها موصولة ، والعلم عند الله تعالى اهـ . وأقول : حسبنا أن الحافظ لم يقف لها على سند متصل ، على أن النسخ في عرف الصحابة أعم من
nindex.php?page=treesubj&link=22169النسخ المصطلح عليه في الأصول ، وجمهور الفقهاء يجعلون حكم الثانية الوجوب ، وحكم الأولى الندب ، ويستدلون على ذلك بتفسير
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس الذي جعل بعضهم لروايته حكم الحديث المرفوع ، قال الحافظ في الفتح : وهذا قاله الحافظ توقيفا على ما يظهر ، ويحتمل أن يكون قاله بطريق الاستقراء اهـ . ونقول : إن التوقيف من الشارع مستبعد أن يختص به
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس الذي كان عند نزول السورة صغير السن ، فلم يحضر غزوة
بدر ، ولم يسمع من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان يقوله فيها يومئذ ، وكونه سمعه بعد سنين ولم يصرح بسماعه مستبعد جدا ، فالوجه المختار أن ما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فهم منه معناه أن قتال المثلين فرض لا ينافي أن قتال العشرة ندب ، وقد عبر عنه بعض رواته عنه بالنسخ .
وقال الحافظ في أحكام الحديث من الفتح عند قوله فجاء " التخفيف " ما نصه : في رواية
الإسماعيلي فنزلت الآية الأخرى وزاد ففرض عليهم ألا يفر رجل من رجلين ، ولا قوم من مثليهم . واستدل بهذا الحديث على وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=8169ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار ، وتحريم الفرار عليه منهما سواء طلباه أو طلبهما ، وسواء وقع ذلك وهو واقف في الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر . وهذا هو ظاهر تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ورجحه
ابن الصباغ من الشافعية وهو المعتمد لوجود نص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي عليه في الرسالة الجديدة رواية
الربيع [ ص: 71 ] ولفظه ومن نسخة عليها خط
الربيع نقلت قال بعد أن ذكر للآية آيات في كتابه : إنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة ، وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين . ثم ذكر حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس المذكور في الباب وساق الكلام عليه لكن المنفرد لو طلباه وهو على غير أهبة جاز له التولي عنهما جزما ؟ وإن طلبهما فهل يحرم ؟ وجهان أصحهما عند المتأخرين لا ، لكن ظاهر هذه الآثار المتضافرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس يأباه وهو ترجمان القرآن ، وأعرف الناس بالمراد ، لكن يحتمل أن يكون ما أطلقه إنما هو في صورة ما إذا قاوم الواحد المسلم من جملة الصف في عسكر المسلمين اثنين من الكفار . أما المفرد وحده بغير العسكر فلا ؛ لأن الجهاد إنما عهد بالجماعة دون الشخص المنفرد ، وهذا فيه نظر فقد أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض أصحابه سرية وحده ، وقد استوعب
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري وابن مردويه طرق هذا الحديث عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وفي غالبها التصريح بمنع تولي الواحد عن الاثنين ، واستدل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في بعضها بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=207ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ( 2 : 207 ) وبقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=84فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ( 4 : 84 ) اهـ .
ومن مباحث القراءات اللفظية في الآيتين أن
ابن كثير ونافعا وابن عامر قرءوا " يكن " المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء على التأنيث اللفظي ، ووافقهم
أبو عمرو ويعقوب في " يكن " التي في الآية الثانية ، وأما " يكن " المسند إلى
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65عشرون صابرون فقرأها الجميع بالتذكير ؛ لأن المسند إليه جمع مذكر موصوف بمثله . ومن مباحث البلاغة فيهما أن المعنى المراد في تفضيل المؤمنين على الكافرين في القتال ، مقيد بأن يكون المؤمنون صابرين دون الكافرين أو فوق صبرهم ، ويكون الكافرون من الذين لا يفقهون من المقاصد الدينية والاجتماعية ما يفقهه المؤمنون . فكان من إيجاز القرآن أن في الآية الأولى أن قيد العشرين بوصف صابرين ولم يقيد بذلك المائة ، وقيد الغلب في قتال المائة للألف بأن يكون للذين كفروا الذين وصفهم بأنهم قوم لا يفقهون ، ولم يذكر هذا القيد في غلب العشرين للمائة منهم ، وكل من القيدين مراد ، فأثبت في كل من الشرطين ما حذف نظيره في الآخر ، وهو ما يسمى في البديع بالاحتباك ، ثم إنه وصف المائة في آية التخفيف بالصابرة ؛ لأن الصبر شرط لا بد منه في كل حال وكل عدد مع عدم وصف المائة في الأولى ، لئلا يتوهم أنه شرط في العدد القليل كالعشرين دون الكثير كالمائة والألف ، ولم يذكره في الألف استغناء بما قبله وبما بعده من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249والله مع الصابرين وهو مع قوله قبله : بإذن الله يدل على أن سنة الله تعالى في الغلب أن يكون للصابرين على غير الصابرين ، وكذا على من هم أقل منهم صبرا ، وفي هذا تحذير للمؤمنين من الغرور بدينهم ، لئلا يظنوا أن الإيمان وحده يقتضي النصر والغلب وإن لم يقترن بصفاته اللازمة لكماله ، ومن أعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور وسنن الله تعالى في الخلق المعبر عنه هنا بالفقه
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْعَزِيمَةِ ، قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ مَا دُونَهَا مِنْ مَرْتَبَةِ الضَّعْفِ وَهِيَ مَا يُسَمَّى الرُّخْصَةَ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66nindex.php?page=treesubj&link=28979_28916الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ : ضُعْفًا بِضَمِّ الضَّادِ ،
وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ ، وَعَنِ
الْخَلِيلِ أَنَّ الضَّمَّ لِمَا كَانَ فِي الْبَدَنِ ، وَالْفَتْحَ لِمَا كَانَ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ أَوِ النَّفْسِ . وَقَرَأَ
أَبُو جَعْفَرٍ ( وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعَفَاءَ ) جَمْعُ ضَعِيفٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي
بَدْرٍ ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=6يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 8 : 6 ) فَالضَّعْفُ عَلَى هَذَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْمَادِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَقَلَّ حَالَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْقِتَالِ أَنَّ تَرْجَحَ الْمِائَةُ مِنْهُمْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالِ الضَّعْفِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَهُوَ وَقْتُ غَزْوَةِ
بَدْرٍ ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْقُوتِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِقَصْدِ لِقَاءِ الْعِيرِ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الْكَامِلِي الْعُدَّةِ وَالْأُهْبَةِ . وَلَمَّا كَمَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْقُوَّةُ ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ ، كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَشْرَةَ أَضْعَافِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ ، وَهَلْ تَمَّ لَهُمْ فَتْحُ
مَمَالِكِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا بِذَلِكَ ؟ وَكَانَ الْقُدْوَةَ الْأُولَى فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ ! كَانَ الْجَيْشُ الَّذِي بَعَثَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى
مُؤْتَةَ مِنْ مَشَارِفِ
الشَّامِ لِلْقِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلُوا رَسُولَهُ (
الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيَّ ) إِلَى أَمِيرِ
بُصَرَى ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي عَدَدِ الْجَيْشِ الَّذِي قَاتَلَهُمْ مِنَ
الرُّومِ وَمُنْتَصِرَةِ الْعَرَبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا ، وَرَوَى
الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ
الرُّومِ وَمِائَةَ أَلْفٍ مِنْ عَرَبِ لَخْمٍ وَجُذَامَ ، فَمَنْ شَكَّ أَوْ شَكَّكَ فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالرُّومِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ، فَمَاذَا يَقُولُ فِي وَقْعَةِ
الْيَرْمُوكِ [ ص: 69 ] الشَّهِيرَةِ ؟ رَوَى الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ الْجُمُوعَ الَّتِي جَمَعَهَا
هِرَقْلُ لِلْمَعْرَكَةِ الْفَاصِلَةِ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ مِنَ
الرُّومِ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ كَانَتْ زُهَاءَ مِائَتَيْ أَلْفٍ ، وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَدَدُ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَرَوَوْا أَنَّ قَتْلَى
الرُّومِ بَلَغَتْ سَبْعِينَ أَلْفًا - فَمَنْ شَكَّ أَوْ مَارَى فِي الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِكِ الْفَاصِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، فَهَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَارِيَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فِي جُمْلَةِ الْمَعَارِكِ الَّتِي فَتَحَ بِهَا الصَّحَابَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ تِلْكَ الْمَمَالِكَ الْوَاسِعَةَ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ ، وَكَوْنِهِمْ كَانُوا فِي مَجْمُوعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ أَعْدَائِهِمْ ؟ أَنَّى وَهُوَ عَيْنُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي يُفِيدُ عِلْمَ الْيَقِينِ ؟ !
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْغَلَبِ : بِإِذْنِ اللَّهِ فَقَدْ فَسَّرُوهُ هُنَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ تَعَالَى ، وَأَصْلُ الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ إِبَاحَةُ الشَّيْءِ وَالرُّخْصَةُ فِي فِعْلِهِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا فَيَكُونُ حَاصِلُ الْإِذْنِ إِزَالَةَ الْمَنْعِ ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْفِعْلِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=20581فَالْإِذْنُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَمْرُ تَكْلِيفٍ أَوْ إِبَاحَةٍ وَتَرْخِيصٍ وَهُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ . فَالْأَوَّلُ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=39أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ( 22 : 39 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( 4 : 64 ) وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ( 2 : 255 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=105يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ( 11 : 105 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=46وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ( 33 : 46 ) - وَإِمَّا أَمْرُ تَكْوِينٍ أَيْ بَيَانٍ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِعْلِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ أَوْ إِقْدَارِهِ لِمَنْ شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ فَيَكُونُ مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِرَادَةِ وَمِنْ مُتَعَلَّقِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=110وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي ( 5 : 110 ) وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=58وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ( 7 : 58 ) أَيْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ( 2 : 249 ) أَيْ بِأَقْدَارِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ ، وَفِي مَعْنَاهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا ، وَقَدْ خَتَمَ كُلًّا مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 2 : 249 ) وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ لَا نُدْرِكُ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا ، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ الْمَنْصُورُ وَلَنْ يَغْلِبَهُ أَحَدٌ ، فَنُفَسِّرُهَا بِمَعِيَّةِ الْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْآيَةِ 46 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِيَاقِ الْحَرْبِ وَغَزْوَةِ
بَدْرٍ ، وَقَدْ أَحَلْتُ فِيهِ عَلَى تَفْسِيرِ مِثْلِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 2 : 153 ) وَقَدْ قُلْتُ هُنَاكَ : ثُمَّ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=153إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ مَعَكُمْ ، لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ . وَمِنَ الْمُفِيدِ أَنْ يُرَاجِعَ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ تِلْكَ الْآيَةِ [ فِي ص30 وَمَا بَعْدَهَا ج 2 طَ الْهَيْئَةِ ] فَإِنَّهُ يُفِيدُ فِي إِتْمَامِ مَعْنَى مَا هُنَا .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْعَزِيمَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الرُّخْصَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا ، وَلَكِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُنَافِي الْعَزِيمَةَ ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّلَتْ
[ ص: 70 ] هُنَا بِوُجُودِ الضَّعْفِ ، وَنَسْخُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْأَمْرِ بِهِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا . وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=66الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ قَالَ : فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمُ اهـ . قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي شَرْحِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ : كَذَا فِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَفِي رِوَايَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=17282وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ : نَقَصَ مِنَ النَّصْرِ اهـ . وَأَقُولُ : مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الصَّبْرَ فِي مُقَاتَلَةِ الضِّعْفَيْنِ دُونَ الصَّبْرِ فِي مُقَاتَلَةِ الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ الْعَدَدِيَّةِ . وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّصْرَ عَلَى الضِّعْفَيْنِ أَقَلُّ أَوْ أَنْقَصُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ ، وَكِلَاهُمَا لَازِمٌ ضَرُورِيٌّ لِلْآخَرِ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ الَّذِي زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ الْأُولَى عَزِيمَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِحَالِ الْقُوَّةِ ، وَالثَّانِيَةِ رُخْصَةً مُقَيَّدَةً بِحَالِ الضَّعْفِ ، وَمَا رَوَاهُ
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ
nindex.php?page=showalam&ids=12418إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ
عَطَاءٍ عَنْهُ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالنَّسْخِ ، قَالَ الْحَافِظُ : فِي سَنَدِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَهُ مُسْنَدَةٌ بَلْ مُعْضَلَةٌ وَصَنِيعُ
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابْنُ إِسْحَاقَ وَتَبِعَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اهـ . وَأَقُولُ : حَسْبُنَا أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَقِفْ لَهَا عَلَى سَنَدٍ مُتَّصِلٍ ، عَلَى أَنَّ النَّسْخَ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ أَعَمُّ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=22169النَّسْخِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَجْعَلُونَ حُكْمَ الثَّانِيَةِ الْوُجُوبَ ، وَحُكْمَ الْأُولَى النَّدْبَ ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَفْسِيرِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي جَعَلَ بَعْضُهُمْ لِرِوَايَتِهِ حُكْمَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ ، قَالَ الْحَافِظَ فِي الْفَتْحِ : وَهَذَا قَالَهُ الْحَافِظُ تَوْقِيفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاءِ اهـ . وَنَقُولُ : إِنَّ التَّوْقِيفَ مِنَ الشَّارِعِ مُسْتَبْعَدٌ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ الَّذِي كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ صَغِيرَ السِّنِّ ، فَلَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ
بَدْرٍ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ ، وَكَوْنُهُ سَمِعَهُ بَعْدَ سِنِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا ، فَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ قِتَالَ الْمِثْلَيْنِ فَرْضٌ لَا يُنَافِي أَنَّ قِتَالَ الْعَشْرَةِ نَدْبٌ ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَنْهُ بِالنَّسْخِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي أَحْكَامِ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَجَاءَ " التَّخْفِيفُ " مَا نَصُّهُ : فِي رِوَايَةِ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَزَادَ فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَلَا قَوْمٌ مِنْ مِثْلَيْهِمْ . وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ
nindex.php?page=treesubj&link=8169ثَبَاتِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ إِذَا قَاوَمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَتَحْرِيمِ الْفِرَارِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا سَوَاءٌ طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَهُمَا ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ مَعَ الْعَسْكَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَسْكَرٌ . وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَجَّحَهُ
ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِوُجُودِ نَصِّ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ رِوَايَةِ
الرَّبِيعِ [ ص: 71 ] وَلَفْظِهِ وَمِنْ نُسْخَةٍ عَلَيْهَا خَطُّ
الرَّبِيعِ نُقِلَتْ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لِلْآيَةِ آيَاتٍ فِي كِتَابِهِ : إِنَّهُ وَضَعَ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الْعَشَرَةِ ، وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الِاثْنَيْنِ . ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ طَلَبَاهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ جَازَ لَهُ التَّوَلِّي عَنْهُمَا جَزْمًا ؟ وَإِنْ طَلَبَهُمَا فَهَلْ يَحْرُمُ ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا ، لَكِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَضَافِرَةِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْبَاهُ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ، وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِالْمُرَادِ ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَطْلَقَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَاوَمَ الْوَاحِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّفِّ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ . أَمَّا الْمُفْرَدُ وَحْدَهُ بِغَيْرِ الْعَسْكَرِ فَلَا ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ إِنَّمَا عُهِدَ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الشَّخْصِ الْمُنْفَرِدِ ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْضَ أَصْحَابِهِ سَرِيَةً وَحْدَهُ ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي غَالِبِهَا التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ تَوَلِّي الْوَاحِدِ عَنِ الِاثْنَيْنِ ، وَاسْتَدَلَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=207وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ( 2 : 207 ) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=84فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ( 4 : 84 ) اهـ .
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ
ابْنَ كَثِيرٍ وَنَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءُوا " يَكُنْ " الْمُسْنَدَ إِلَى الْمِائَةِ فِي الْآيَتَيْنِ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ ، وَوَافَقَهُمْ
أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي " يَكُنْ " الَّتِي فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ ، وَأَمَّا " يَكُنْ " الْمُسْنَدُ إِلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=65عِشْرُونَ صَابِرُونَ فَقَرَأَهَا الْجَمِيعُ بِالتَّذْكِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ جَمْعُ مُذَكَّرٍ مَوْصُوفٌ بِمِثْلِهِ . وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِيهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي الْقِتَالِ ، مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ صَابِرِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ فَوْقَ صَبْرِهِمْ ، وَيَكُونُ الْكَافِرُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا يَفْقَهُهُ الْمُؤْمِنُونَ . فَكَانَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ قَيَّدَ الْعِشْرِينَ بِوَصْفِ صَابِرِينَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِذَلِكَ الْمِائَةَ ، وَقَيَّدَ الْغَلَبَ فِي قِتَالِ الْمِائَةِ لِلْأَلْفِ بِأَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي غَلَبِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَةِ مِنْهُمْ ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَيْدَيْنِ مُرَادٌ ، فَأَثْبَتَ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ الْمِائَةَ فِي آيَةِ التَّخْفِيفِ بِالصَّابِرَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ شَرْطٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ عَدَدٍ مَعَ عَدَمِ وَصْفِ الْمِائَةِ فِي الْأُولَى ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالْعِشْرِينِ دُونَ الْكَثِيرِ كَالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَلْفِ اسْتِغْنَاءً بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=249وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ : بِإِذْنِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْغَلَبِ أَنْ يَكُونَ لِلصَّابِرِينَ عَلَى غَيْرِ الصَّابِرِينَ ، وَكَذَا عَلَى مَنْ هُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ صَبْرًا ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ ، لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ يَقْتَضِي النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِكَمَالِهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الصَّبْرُ وَالْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْفِقْهِ