وجملة القول في تفسير الآيات الثلاث أنه ليس من سنة الأنبياء ، ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم ، إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين ، لئلا يفضي أخذه الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم - وأن ما فعله المؤمنون من بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا ، على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، ولولا ذلك لسألوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه ، كما سألوه عن الأنفال من قبله - وأنه لولا كتاب من الله سبق مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى ، وعلى خلاف سنته ، وبالغ حكمته لمسهم عذاب عظيم في أخذهم ذلك - وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم والله غفور رحيم . مفاداة أسرى
[ ص: 82 ] ( فإن قيل ) : تبين بعد نزول هذه الآيات أن ما حصل من أخذ الفداء لم يكن مضعفا للمؤمنين ، ولا مزيدا من شوكة المشركين ، بل كان خيرا ترتب عليه فوائد كثيرة بينها المحقق ابن القيم من بضعة وجوه - وسيأتي سردها - ( قلنا ) : ما يدرينا ماذا كان يكون لو عمل المسلمون بما دلت الآية الأولى من قتل أولئك الأسرى أو من عدم أخذ الأسرى يومئذ ؟ على أنه هو الذي تقتضيه الحكمة ، وسنة أنبياء الرحمة ، أليس من المعقول أن يكون ذلك مرهبا للمشركين ، وصادا لهم عن الزحف بعد سنة على المؤمنين ، وأخذ الثأر منهم في أحد ، ثم اعتداؤهم في غيرها من الغزوات ؟
( فإن قيل ) : وما حكمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله ، وهو أرحجهم ميزانا وأقواهم برهانا ، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم ؟ ( قلت ) : إن لله تعالى في ذلك لحكما أذكر ما ظهر لي منها : ( الحكمة الأولى ) عمل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأي الجمهور الأعظم فيما لا نص فيه من الله تعالى ، وهو ركن من أركان الإصلاح السياسي والمدني الذي عليه أكثر أمم البشر في دولها القوية في هذا العصر ، كما عمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ برأيهم الذي صرح به الحباب بن المنذر في منزل المسلمين يوم بدر وتقدم [ في ص 508 وما بعدها ج9 ط الهيئة ] وقد كان هذا من فضائله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم فرضه الله عليه في غزوة أحد بقوله : وشاورهم في الأمر ( 3 : 159 ) [ ص 163 وما بعدها ج 4 ط الهيئة ] .
( الحكمة الثانية ) بيان أن ، ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى من العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة ، لا أنهم معصومون فيها . الجمهور قد يخطئون ولا سيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة
( الحكمة الثالثة ) أن ، ولكن الله تعالى يبين له ذلك ، ولا يقره عليه كما صرح به العلماء فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد ، ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف ـ رضي الله عنه ـ حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام ، لئلا يعرضوا عن سماع دعوته ، فعاتبه الله على ذلك بقوله : عبد الله بن أم مكتوم عبس وتولى أن جاءه الأعمى إلى قوله تعالى : كلا ( 80 : 1 - 11 ) .
( الحكمة الرابعة ) أن ، ويعده ذنبا له ، ويمن عليه بعفوه عنه ومغفرته له على كون الخطأ في الاجتهاد معفوا عنه في شريعته ؛ لأنه في علو مقامه وسعة عرفانه يعد عليه من " مخالفة الأولى والأفضل والأكمل [ ص: 83 ] ما لا يعد على من دونه من المؤمنين ، على قاعدة : " حسنات الأبرار سيئات المقربين " ومثال ذلك قوله تعالى له لما أذن بالتخلف عن غزوة الله تعالى يعاتب رسوله على الخطأ في الاجتهاد مع حسن نيته فيه تبوك لبعض المنافقين : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ( 9 : 43 ) فهذه أمثلة ذنوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسليما ، والمغفورة بنص قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ( 48 : 2 ) والذنب ما له عاقبة ضارة أو مخالفة للمصلحة تكون وراءه كذنب الدابة وإن لم يكن معصية .
( الحكمة الخامسة ) بيان بقوله تعالى : مؤاخذة الله تعالى الناس على الأعمال النفسية وإرادة السوء بعد تنفيذها بالعمل تريدون عرض الدنيا وإنما كانت إرادة هذا ذنبا ؛ لأنه كان باستشراف أشد من استشرافهم أولا لإيثار عير أبي سفيان على الجهاد ، ولذلك لم يسألوا عن حكمه كما سألوا من قبل عن الأنفال ، ولم يبالوا في سبيله بأن يقتل المشركون منهم بعد عام مثل عدد من قتلوهم ببدر ، كما ورد في بعض الروايات ، وما قاله بعض المفسرين من أن سبب هذا حبهم للشهادة فلا دليل عليه من نص ولا قرينة حال ، ويرده أنه ليس للمؤمنين أن يحبوا أو يختاروا قتل المشركين لكثير منهم ولا قليل ، ويكفي من حب الشهادة الإقدام على القتال ، وعدم الفرار من الزحف خوفا من القتل .
( الحكمة السادسة ) الإيذان بأنهم استحقوا العذاب على أخذ الفداء ، ولم يذكر معه مخالفة المصلحة المذكورة ؛ لأنها لم تكن قد بينت لهم ، وإنما كان من شأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلم هذه المصلحة ويعمل بمقتضاها ، والظاهر أنه علمها ولكنه رجح عليها العمل بالمشاورة ، والأخذ برأي الجمهور الذي فرضه الله تعالى عليه فرضا في غزوة أحد بعد أن ألهمه إياه إلهاما في غزوة بدر ، ولهذا لم يمن عليه عنها بالعفو عنه خاصة ، كما من عليه بعد ذلك في الإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك الذي هو مخالف للمصلحة أيضا .
( الحكمة السابعة ) بيان بدر أنه لم يعذبهم فيما أخذوا بسوء الإرادة ، أو بغير حق وتقدم وجهه ، وفي هذه المنة بعد الإنذار الشديد خير تربية لأمثالهم من الكاملين تربأ بأنفسهم عن مثل ذلك الاستشراف ، لا أنها تجرئهم عليه كما توهم بعض الناس . منة الله تعالى على أهل
( الحكمة الثامنة ) علمه تعالى بأن أولئك الأسرى ممن كتب لهم طول العمر وتوفيق أكثرهم للإيمان .
( الحكمة التاسعة ) أن يكون من قواعد التشريع أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا ينقض ، وإن ظهر أنه كان خطأ ، ومن ذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 84 ] لما شرع في تنفيذ رأي الجمهور في الخروج إلى أحد على خلاف رأيه ثم راجعوه فيه ، وفوضوا إليه الأمر في الرجوع فلم يرجع ، وقال في ذلك كلمته العظيمة التي تعمل بها دول السياسة الكبرى إلى هذه العصر لحسنها ، لا لاتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتراجع في [ ص78 - 82 ج 4 ط الهيئة ] .
هذا ما فتح الله تعالى به ، وهو مخالف لما ذهب إليه العلامة ابن القيم في الهدي ، وأشار إليه الحافظ في الفتح ، وتارة معزوا إليه ، وتارة بغير عزو ، وإننا ننقله بنصه ، ونقفي عليه بما نراه ناقضا له مع الاعتراف لأستاذنا ابن القيم بالإمامة والتحقيق ( لا العصمة ) في أكثر ما وجه إلى تحقيقه فكره الوقاد ، ذلك أنه عقد في كتابه ( زاد المعاد ) فصلا لهديه صلى الله عليه وسلم في الأسارى ، ذكر فيه حديث الاستشارة في أسرى بدر ورأي الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ والترجيح بينهما قال فيه ما نصه - والعنوان لنا -