( بدر ) الترجيح بين رأي الصديق والفاروق في أسرى
" وقد تكلم الناس في أي الرأيين كان أصوب ، فرجحت طائفة قول عمر لهذا الحديث : ورجحت طائفة قول أبي بكر لاستقرار الأمر عليه ، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم ، ولموافقته الرحمة التي غلبت الغضب ، ولتشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له في ذلك بإبراهيم وعيسى ، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى ، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ، ولخروج من خرج من أصلابهم من المسلمين ، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ، ولموافقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر أولا ، ولموافقة الله له آخرا حيث استقر الأمر على رأيه ، ولكمال نظر فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرا ، وغلبة جانب الرحمة على جانب العقوبة . الصديق
( قالوا ) : وأما فإنما كان رحمة لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا ، ولم يرد ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا بكاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وإن أراده بعض الصحابة ، فالفتنة كانت تعم ولا تصيب من أراد ذلك خاصة ، كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم : لن نغلب اليوم من قلة ، وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم ، فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ، ثم استقر الأمر على النصر والظفر والله أعلم " اهـ .
أقول : إن في هذا الكلام على حسنه وكثرة فوائده مغالطات غير مقصودة ، وبعدا عن معنى الآيتين يجب بيانه لتحرير الموضوع ، وإظهار علو أحكام القرآن وحكمه ، وكونها فوق اجتهاد جميع المجتهدين ؛ لأنها كلام رب العالمين ، وما صرف المحقق ابن القيم عن فقهها وبيان علوها وفوقيتها إلا توجيه ذكائه ومعارفه إلى تفضيل اجتهاد أبي بكر على اجتهاد عمر [ ص: 85 ] لإجماع أهل السنة على كونه أفضل منه ، وإن كانوا لم يختلفوا في أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل أو الأفضل ، فكيف وقد اختاره الرسول بعد العلم بموافقة جمهور الصحابة له ما عدا عمر وكذا ، عبد الله بن رواحة في بعض الروايات ، وهذا الجمهور هو الذي كان يريد من الفداء عرض الدنيا لفقرهم ، وحاشا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الأكبر من إرادة ذلك لذاته ، ولا يقدح في مقامهما إرادتهما لمواساة الجمهور ، وتعويض شيء مما فاتهم من عير وسعد بن أبي وقاص أبي سفيان ، بعد ما كان من بلائهم في القتال على جوعهم ، وعدم استعدادهم له ، وليس هذا الذنب من الفتن التي يعم بها العذاب كما أشار إليه ابن القيم ، وهو مما يمكن وقوعه مع وجوده صلى الله عليه وسلم .
والتحقيق في المسألة الذي تدل عليه الآيتان دلالة واضحة تؤيدها الروايات الواردة في موضوعها وكذا آية سورة محمد عليه الصلاة والسلام ، أن رأي عمر هو الصواب الذي كان ينبغي العمل به في مثل الحال التي كان عليها المسلمون مع أعدائهم في وقت غزوة بدر ، وأما رأي ، فهو الذي تقتضي الحكمة والرحمة العمل به بعد الإثخان في الأرض بالغلب والسلطان ، ولكن كان من قدر الله تعالى أن نفذ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي الصديق أبي بكر ؛ لأنه رأى أن جمهور المسلمين يوافقه فيه ، وإن كان للكثيرين منهم قصد دون قصده الذي بنى عليه رأيه ، وهو إرادتهم للمال لحاجتهم الدنيوية إليه كما صرحت به الآية الكريمة ، وفي الحديث الذي تقدم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هوي رأي أبي بكر ، ولم يهو رأي عمر ، وعندي أن أسباب هواه لرأي أبي بكر : ( 1 ) حرصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على إرضاء الجمهور لعذرهم الذي بيناه آنفا في إرادتهم لعرض الدنيا ( 2 ) تغليبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرحمة على العقوبة إذا لم يكن في الرحمة إضاعة لحد من حدود الله ، ولا مخالفة لأمره تعالى ( 3 ) رجاء إيمانهم كلهم أو بعضهم ، وكان من حكمة الله تعالى ورحمته في هذا القدر أن بين لرسوله وللمؤمنين سنته تعالى في التغالب بين الأمم ، وما ينبغي لأنبيائه وأتباعهم في حالتي الضعف والإثخان في الأرض ، وسائر ما دلت عليه الآيات من الأحكام الحربية والسياسية والتشريعية .