الباب السابع
( في القواعد الحربية العسكرية والسياسية وفيه 28 قاعدة )
( تنبيه ) ورد في هذا الموضوع عدة قواعد في سياق الأوامر والنواهي المناسبة لنظم الكلام ، الذي تقتضيه البلاغة والتأثير في التلاوة لغرض الهداية التي هي المقصد الأول للدين ، نذكرها في ترتيب آخر تقدم فيه الأهم في الموضوع فالأهم بحسب الشئون الحربية فنقول : ( القاعدة الأولى ) وجوب فيدخل في ذلك عدد المقاتلة ، والواجب أن يستعد كل مكلف للقتال ؛ لأنه قد يكون فرضا عينيا في بعض الأحوال ، يستدعي ما يسمى بالنفير العام ، ولا يمكن هذا في أمم الحضارة إلا بمقتضى نظام عام ، ويدخل فيه السلاح ، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال ، وقد كثرت أجناسه وأنواعه وأصنافه في هذا الزمان ، فمنه البري والبحري والهوائي ولكل منها مراكب وسفائن لمباشرة القتال ، ولنقل العسكر والأدوات والزاد والسلاح ، ويدخل فيه الزاد ونظام سوق الجيش وغير ذلك من العلوم والفنون الكثيرة . إعداد الأمة كل ما تستطيعه من قوة لقتال أعدائها
( القاعدة الثانية ) وجوب ، فإن من أهم القوى الحربية مرابطة الفرسان في ثغور البلاد ، وخصه بالذكر للحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه ، حتى في هذا العصر الذي كثرت فيه مراكب النقل البخارية والكهربائية بأنواعها ، والنص العام الصريح في هاتين القاعدتين قوله تعالى : رباط الخيل وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ( 60 ) .
( القاعدة الثالثة ) أن يكون من عاقبة التعدي على بلاد الأمة أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع لها حتى في غير بلادها ، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها ، مطمئنة على أهلها ومصالحها وأموالها ، وهذا ما يسمى في عرف هذا العصر بالسلم المسلح ، وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا ، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا ، فقيد الأمر بإعداد القوى والمرابطة بقوله : القصد الأول من إعداد هذه القوى والمرابطة إرهاب الأعداء وإخافتهم ترهبون به عدو الله وعدوكم ( 60 ) .
[ ص: 126 ] ( القاعدة الرابعة ) ، لإعداد ما ذكر إذ لا يتم بدون المال شيء منه ، ولذلك قال بعد ما ذكر من هذه الآية : إنفاق المال في سبيل الله وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ( 60 ) وقد كان هذا الإنفاق في العصر الأول موكولا إلى إيمان المؤمنين في يسرهم وعسرهم ، كما ترى في أخبار غزوة تبوك المجملة في السورة الآتية ( التوبة ) والمفصلة في السيرة النبوية ، ولا بد له من نظام في هذا العصر يدخل في ميزانية الدولة كما تفعل جميع الدول ذات النظام الثابت ، وسيأتي في سورة التوبة أن له سهما من مال الزكاة ، وهي قد نزلت بعد الأنفال مفصلة لكثير من إجمالها ، ومنه هذا الترغيب الصريح في الإنفاق لإعداد القوى العسكرية ، وفيه إشارة إلى الترهيب ، وإنذار على التقصير ، وقد صرح بمثله في قوله تعالى بعد آيات في شرع القتال من سورة البقرة : وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ( 2 : 195 ) .
( القاعدة الخامسة ) ، إيثارا لها على الحرب التي لا تقصد لذاتها ، بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها . وذلك قوله تعالى عقب الأمر بإعداد كل ما تستطيعه الأمة من قوة ومرابطة لإرهاب عدوه وعدوها : تفضيل السلم على الحرب إذا جنح العدو لها وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( 61 ) .
ولما كان جنوح العدو للسلم قد يكون خديعة لنا لنكف عن القتال ، ريثما يستعدون هم له أو لغير ذلك من ضروب الخداع ، وكان من المصلحة في هذه الحال أن لا نقبل الصلح منهم ، ما لم نستفد كل ما يمكننا منه تفوقنا عليهم - لم يعد الشارع احتمال ذلك مانعا من ترجيح السلم ، بل قال عز وجل : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ( 62 ) وهو برهان على أن ، لا عن ضعف وذلة ، فراجع تفسير الآيتين في أول هذا الجزء . الإسلام دين السلام ، لكن عن قدرة وعزة
( القاعدتان السادسة والسابعة ) ، وتحريم الخيانة فيه سرا أو جهرا ، لتحريم الخيانة في كل أمانة مادية أو معنوية أو غيرها مطلقا ومقيدا ، والآيات في ذلك متعددة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة ، وعده قصاصة ورق عند إمكان نقضه بالحيلة ، حتى إن الله تعالى لم يبح لنا أن ننصر إخواننا المسلمين غير الخاضعين لحكمنا على المعاهدين من الكفار كما قال في آية : المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ( 72 ) فراجع تفسيرها فيما سبق لهذا الجزء .
وقال تعالى في النهي عن الخيانة على وجه الإطلاق : يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ( 27 ) وتفسيره في ( ص533 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) [ ص: 127 ] وفاتنا أن نذكر من أمثلة نقض عهود الأعداء فهو من أهم الأمانات فذكرناه فيما يلي ( القاعدة الثامنة ) في قوله أو عمله ، فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليه عهده على طريق عادل سوي صريح لا خداع فيه ولا خيانة . وذلك قوله : نبذ العهد بشرطه إذا خيف من العدو المعاهد لنا أن يخون في عهده ، وظهرت آية ذلك وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 58 ) ، وهذا من الفضائل التي يمتاز بها التشريع الإسلامي على جميع شرائع الأمم وقوانينها . راجع تفسير الآية وبعض الشواهد على أخذ مسلمي العصر الأول بها عملا بالكتاب العزيز وهدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها بأول هذا الجزء .
( القاعدة التاسعة ) وجوب التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم ، تمنعهم من الجرأة والإقدام على مثل خيانتهم بنقضهم ، وذلك قوله تعالى فيمن نقضوا عهد رسوله المرة بعد المرة وكانوا من اليهود : معاملة ناقضي العهد بالشدة فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( 57 ) فراجع تفسيرها في أول هذا الجزء ثم راجع ما كان من معاهدة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لليهود ، ونقضهم لها وعاقبة ذلك فيهم بأول هذا الجزء .
ومنه يظهر الفرق بين تعاليم الإسلام الجامعة بين الحزم والعدل ، والشدة والفضل ، وبين ما عليه دول المدنية الإفرنجية من القسوة والظلم .
( فإن قيل ) : إن اتباع المسلمين وحدهم لهذه الفضائل في الحرب يمكن أعداءهم من خيانتهم ، والظهور عليهم بعدم التزامهم لها . قلنا : إن أعداءهم في العصور الأولى كانوا أبعد من أعدائهم في هذا العصر عن هذه الفضائل ، إذ لم يكونوا مقيدين في الحرب بنظام مثل قوانينها الحاضرة ، التي تراعى ويحتج بها ، فإن القوي يتركها تأولا ، وكان تفوقهم بالقوة والكثرة عظيما ، وقد غلبهم المسلمون ، وإنما غلبوهم بهذه الفضائل وأمثالها .
( القاعدة العاشرة ) جعل ومنع فتون أحد واضطهاده ، لأجل إرجاعه عن دينه ، وذلك قوله تعالى : الغاية من القتال الديني حرية الدين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير ( 39 ) وقد كان المشركون يضطهدون المسلمين بكل ما قدروا عليه من الإيذاء والتعذيب لأجل دينهم . وأما المسلمون فلم يفعلوا ذلك ، ومن عساه شذ عن ذلك فقد خالف دين الإسلام الذي حرم الفتنة وحرم الإكراه في الدين ، وشرع فيه الاختيار [ راجع ص463 و464 وتفسير الآية في ص552 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ] وتجد في هذا البحث حكم القتال بين المسلمين في حال الفتنة كحرب الجمل وصفين .
( القاعدة الحادية عشرة ) كون ، التي يحصل [ ص: 128 ] بها ما يعبر عنه في عرف العصر بالقوة الروحية ، وفي هذه السورة منه بضعة أسباب أخرى إيجابية وسلبية ، نذكرها منظومة في سلك هذه القواعد . الثبات في القتال من أسباب النصر المعنوية
( القاعدة الثانية عشرة ) ، والنص في هاتين القاعدتين قوله تعالى : ذكر الله تعالى عند لقاء العدو يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( 45 ) وقد بينا في تفسير هذه الآية الوجه المعقول في كون هذين الأمرين من أسباب الفلاح والقوة والنصر ، وأوردنا بعض الشواهد على صحة ذلك من وقائع الحرب في هذا العصر ، وأقوال علماء هذا الفن في أول هذا الجزء .
( القاعدة الثالثة عشرة ) بنص قوله تعالى عطفا على السببين السابقين : طاعة الله ورسوله ، وهي من أسباب النصر المعنوية وأطيعوا الله ورسوله ( 46 ) إلخ . ويدخل في حكم طاعة الرسول . قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : طاعة الإمام الذي يحارب المسلم تحت لوائه ، وطاعة قواده رواه الشيخان من حديث أبي هريرة ، وفي رواية لهما بلفظ ( الأمير ) وفيها زيادة عند البخاري : من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني . وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا ، وإن قال بغيره فإن عليه منه
الجنة بضم الجيم : الترس والوقاية ، ومن المعروف الشائع من النظام العسكري في عصرنا أن الطاعة المطلقة ركن من أركانه ، فيعاقبون من يخالف أوامر القواد من الجند أفراده وضباطه أشد العقاب من ضرب شديد ، وقتل فظيع ، ولولا هذا لما ثبت في العالم المدني سلطان ولا حكم ، لكثرة تنازع الأحزاب السياسية واختلاف زعمائها حتى في وقت السلم ، وكثرة دسائس الأعداء وبذلهم الرشوة ، ولا سيما زمن الحرب . [ راجع تفسير الآية في أول هذا الجزء ] .
( القاعدة الرابعة عشرة ) ، ولذلك عظم الله تعالى شأنه بقوله بعد الأمر بطاعته وطاعة رسوله وبذكره : وجوب الصبر ، وكونه أعظم أسباب النصر واصبروا إن الله مع الصابرين ( 46 ) وأي بيان لفائدة الصبر أبلغ من إثبات معية الله تعالى لأهله ؟ ! [ راجع تفسيرها في أول هذا الجزء ] .
( القاعدة الخامسة عشرة ) ، وكونه أمر الله تعالى به في هذه السورة في مقام توطين النفس على إيثار السلم على الحرب ، وثبوت الصلح من الأعداء مع احتمال إرادتهم به الخداع ( آية 61 و62 ) فانظر تفسيرها في الجزء العاشر ، وقال قبلها في الرد على المنافقين ومرضى القلوب : التوكل على الله تعالى إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ( 49 ) فراجع تفسيرها في الجزء العاشر . وقد وصف الله المؤمنين بالتوكل فيها [ ص: 129 ] وفي " الآية الثانية " . وقد بينا معناه وفائدته في الأصل الرابع من الباب الرابع لهذه الخلاصة ، وإن شئت زيادة البيان في هذا فراجع [ ص168 - 175 ج 4 ط الهيئة ] .
( القاعدة السادسة عشرة ) ، وتعليله بأنه سبب للفشل ، وذهاب القوة ، وذلك قوله تعالى : اتقاء التنازع ، واختلاق التفرق في حال القتال وما يتعلق به ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ( 46 ) وهذا ما تجري عليه الدول القوية ذات النظام المبني على الشورى في تنازع الأحزاب ، فإنها تبطل هذا التنازع ، وتوقف عمل مجالس الشورى النيابية في زمن الحرب ، وتكتفي بالشورى العسكرية ، وهي مشروعة في الإسلام ، عمل بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة بدر ، وفرضها الله تعالى في غزوة أحد ، وهي واجبة على من دونه من الأئمة والأمراء بالأولى [ راجع تفسير : وشاورهم في الأمر ( 3 : 159 ) في ص163 - 168 ج 4 ط الهيئة ] .
( القاعدة السابعة عشرة ) كالمشركين كما في الآية 47 . اتقاء البطر ومراءاة الناس في الحرب
( القاعدة الثامنة عشرة ) ، والوعيد عليه في قوله تعالى : تحريم التولي من الزحف يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ( 15 ) إلخ . وتفسيرها [ في ص512 - 516 ج 9 ط الهيئة ] وهو آكد من إيجاب الثبات في القتال .
( القاعدتان التاسعة عشرة والعشرون ) ، وتوطين النفس على الفوز والنصر عليهم من باب العزيمة ، وقتالهم لمثليهم في حال الضعف من باب الرخصة ، وتعليل ذلك بما يقتضيه الإسلام من كون المؤمنين أكمل صبرا من المشركين ، ويفقهون من علم الحرب وأسباب النصر فيها ما لا يفقه المشركون ، وذلك نص الآيتين 65 ، 66 وبيانه في تفسيرهما السابق بهذا الجزء . تشريع قتال المؤمنين في حال القوة لعشرة أمثالهم من الكفار
( القاعدة الحادية والعشرون ) منع في حال الضعف ، وتقييد جواز ذلك بالإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة . فيراجع في تفسير الآيتين 67 و68 بموضعيهما السابقين في هذا الجزء ، وتجد فيه أحكام الأسر والمن والفداء . اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال
( القاعدة الثانية والعشرون ) وإنذارهم خيانة المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء . [ راجع تفسير الآيتين 70 ، 71 ] في هذا الجزء " العاشر " ورجال الحرب في هذا العصر يأخذون عليهم عهودا أخرى . ترغيب الأسرى في الإيمان
( القاعدة الثالثة والعشرون ) إباحة ، ومنه فداء الأسرى في الآية 69 . أكل غنائم الحرب
( القاعدة الرابعة والعشرون ) في الآية 41 وتفسيرها ( فيما سبق بأول هذا الجزء ) . قسمة الغنائم ومستحقوها
[ ص: 130 ] ( القاعدة الخامسة والعشرون ) ، وأصله ما كان بين المهاجرين والأنصار - وهو في الآية 72 وتفسيره في موضعه السابق في هذا الجزء . ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام
( القاعدة السادسة والعشرون ) عدم ثبوت ولاية إلا على من يقاتلهم ، لأجل دينهم ، فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام ، بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه . وبيانه في تفسير تتمة الآية 72 بموضعه السابق في هذا الجزء . النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام
( القاعدة السابعة والعشرون ) كما في الآية 73 وفي تفسيرها أحكام توارثهم معنا ، وبعضهم مع بعض وهو فيما سبق بهذا الجزء . ولاية الكفار بعضهم لبعض
( انتهى تلخيص أصول السورة وسننها وقواعدها وأحكامها )
ولله الحمد .