وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ، مصرحة بالتبليغ الصريح الجهري العام للبراءة من المشركين ، أي من عهودهم ، وسائر خرافات شركهم وضلالاته ، ومبينة لوقته الذي لا يسهل تعميمه إلا فيه ، وهو يوم الحج الأكبر ، وفي تعيينه خلاف سيذكر مع ترجيح أنه عيد النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج وأركانه ، ويجتمع الحاج فيه لإتمام واجبات المناسك وسننها في منى . والأذان : النداء الذي يطرق الآذان بالإعلام بما ينبغي أن يعلمه الخاص والعام ، وهو اسم من التأذين ، قال تعالى : ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ( 12 : 70 ) ومنه الأذان للصلاة . وأذن بها أعلم ، وآذنه بالشيء إيذانا أعلمه به . وأذن بالشيء ( كعلم ) علمه ، وأذن له ( كتعب ) استمع . وأعاد التصريح في هذا الأذان بكونه من الله باسم الذات ، ومن رسوله بصفة التبليغ الذي تقتضيه الرسالة كما صرح بهما في البراءة ، وصرح في الموضعين بذكر المشركين بعنوان الشرك ووصفه ، وذلك لتأكيد هذا الحكم ، وتأكيد تبليغه من جميع وجوهه . ثم أكد ما يجب أن يبلغوه من ذلك بما أوجب أن يخاطبوا به من غير تأخير بقوله : فإن تبتم أي : قولوا لهم : فإن تبتم بالرجوع عن شرككم ، وما زينه لكم من الخيانة والغدر بنقض العهود ، وقبلتم هداية الإسلام فهو خير لكم في الدنيا والآخرة ؛ لأن هداية الإسلام هي السبب لسعادتهما وإن توليتم أي : أعرضتم عن إجابة هذه الدعوة إلى التوبة فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتيه بأن تفلتوا من حكم سننه ووعده لرسله والمؤمنين بالنصر كما تقدم آنفا وبشر الذين كفروا بعذاب أليم وهذا خطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه نبأ عن الغيب ، الذي لا يمكن علمه إلا بوحي الله عز وجل ، وقد تقدم في هذا التفسير أن البشارة ما يؤثر في البشرة من الأنباء ، إما بالتهلل ، وإشراق الوجه وهو السرور الذي تنبسط فيه أسارير الجبهة وتتمدد ، وإما بالعبوس والبسور ، وتقطيب الوجه من الكدر أو الحزن أو الخوف . وغلب في الأول حتى ذهب الأكثرون إلى كونه حقيقة فيه ، وأن استعماله فيما يسوء ويكدر إنما يقال من باب التهكم [ ص: 138 ] ثم استثنى من هؤلاء الذين تبرأ من عهودهم ، وأمر بوعيدهم وتهديدهم ، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر ، من حافظوا على عهدهم بالدقة التامة والإخلاص فقال : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم قال الحافظ ابن كثير : هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها ، لينجو بنفسه حيث شاء إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث ، ومن كان له عهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعهده إلى مدته المضروبة . وذلك بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين ، أي يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته ، وعهده إلى مدته اهـ .
وقال البغوي : المراد بهؤلاء الذين استثناهم الله تعالى بنو ضمرة وحي من كنانة ، وقال : هؤلاء السدي بنو ضمرة وبنو مدلج ، حيان من بني كنانة ، كانوا حلفاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة العسرة من بني تبيع . وقال مجاهد : كان لبني مدلج وخزاعة عهد ، فهو الذي قال الله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقال : هم محمد بن عباد بن جعفر بنو خزيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة . ولكن قال ـ رضي الله عنه ـ : هم مشركو ابن عباس قريش الذين عاهدهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زمن الحديبية ، وكان قد بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوفي لهم بعهدهم هذا إلى مدتهم ، ذكر هذه الأقوال في الدر المنثور . والصواب : أن هذا اللفظ عام ، وتعيين المراد منه بأسماء القبائل لا يتعلق به عمل بعد ذلك الزمان .
والآية تدل على أن ، وعلى أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودا ، وأن شرط وجوب الوفاء به علينا محافظة العدو المعاهد لنا عليه بحذافيره ، من نص القول وفحواه ولحنه المعبر عنهما في هذا العصر بروحه ، فإن نقض شيئا ما من شروط العهد ، وأخل بغرض ما من أغراضه عد ناقضا له ، إذ قال : العهد المؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته ثم لم ينقصوكم شيئا ولفظ شيء أعم الألفاظ ، وهو نكرة في سياق النفي ، فيصدق بأدنى إخلال بالعهد ، وقرئ في الشواذ " ينقضوكم " بالضاد المعجمة ، والمهملة أبلغ - ومن الضروري أن من شروطه التي ينتقض بالإخلال بها عدم مظاهرة أحد من أعدائنا وخصومنا علينا ، وقد صرح بهذا للاهتمام به ، وإلا فهو يدخل في عموم ما قبله ، وذلك أن الغرض الأول من المعاهدات ترك قتال كل من الفريقين المتعاهدين للآخر ، وحرية التعامل بينهما ، فمظاهرة أحدهما لعدو الآخر ، أي معاونته ومساعدته على قتاله ، وما يتعلق به ، كمباشرته للقتال وغيره بنفسه ، يقال : ظاهره إذا عاونه وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم [ ص: 139 ] ( 33 : 26 ) وظاهره عليه إذا ساعده عليه . وتظاهروا عليهم تعاونوا وكله من الظهر الذي يعبر به عن القوة ، ومنه بعير ظهير ، ويحتمل أن يكون من الظهور .
إن الله يحب المتقين أي : لنقض العهود وإخفار الذمم ، ولسائر المفاسد المخلة بالنظام والعدل العام .