إذا ما سلخت الشهر أهلكت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
والحرم بضمتين جمع الحرام ( كسحاب وسحب ) وهي الأشهر التي حرم الله فيها قتالهم في الأذان والتبليغ . الذي بينت الآية ما يترتب عليه من الأحكام بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أي : آمنين لا يعرض لكم أحد بقتال فيها . فالتعريف فيها للعهد [ ص: 149 ] ، ولولا هذا السياق لوجب تفسير الأشهر الحرم بالأربعة التي كانوا يحرمون فيها القتال من قبل إذا لم يستحلوا شيئا منها بالنسيء ، وهي : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب كما سيأتي بيانه في تفسير الآيتين 36 و37 ، على أن بعض المفسرين قال : إنها هي المرادة هنا أو الثلاثة المتوالية منها . وتقدم أن بعضهم قال : إن الأربعة الأشهر التي ضربت لهم لحرية السياحة في الأرض هي من شوال إلى المحرم . والتحقيق ما قلناه هنا وهناك . وقد رواه عن ابن جرير السدي ومجاهد وعمرو بن شعيب وابن زيد وابن إسحاق ، ولكنه اعتمد قبله أن المراد بها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم .
قال تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أي : فإذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرم عليكم قتال المشركين فيها ، فاقتلوهم في أي مكان وجدتموهم فيه من حل وحرم ؛ لأن الحالة بينكم وبينهم عادت حالة حرب كما كانت ، وإنما كان تأمينهم مدة أربعة أشهر منحة منكم ، ومن قال : إن الآية مخصوصة بما عدا أرض الحرم فهو غالط .
وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد أي : وافعلوا بهم كل ما ترونه موافقا للمصلحة من تدابير القتال وشئون الحرب المعهودة ، وأهمها وأشهرها هذه الثلاثة : وأولها : أخذهم أسارى ، فكانوا يعبرون عن الأسر بالأخذ ويسمون الأسير ( أخيذا ) والأخذ أعم من الأسر ، فإن معنى الثاني الشد بالأسار كما تقدم في سورة الأنفال ، فالأسير في أصل اللغة هو الأخيذ الذي يشد . وقد أبيح هنا الأسر الذي حظر بقوله تعالى في سورة الأنفال : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( 8 : 67 ) لحصول شرطه وهو الإثخان الذي هو عبارة عن الغلب والقوة والسيادة ، فمن يسمي مثل هذا نسخا فله أن يقول به هنا ، والصواب أنه من المقيد بالشرط أو الوقت أو الأذان .
والثاني : الحصر وهو حبس العدو حيث يعتصمون من معقل وحصن ، بأن يحاط بهم ويمنعوا من الخروج والانفلات إذا كان في مهاجمتهم فيه خسارة كبيرة ، فاحصروهم إلى أن يسلموا ، وينزلوا على حكمكم بشرط ترضونه أو بغير شرط .
والثالث : قعود المراصد أي الرصد العام ، وهو مراقبة العدو بالقعود لهم في كل مكان يمكن الإشراف عليهم ، ورؤية تجوالهم وتقلبهم في البلاد منه فالمرصد اسم مكان ، وخصه بعضهم بطرق مكة ، والفجاج التي تنتهي إليها لئلا يعودوا إليها لإخراج المسلمين منها ، أو للشرك في البيت والطواف فيه عراة . والصواب أنه عام ، وهذا أهم أفراده . ولعل القائل بهذا التخصيص لم يذكر المدينة وهي العاصمة ؛ لأنه لا خوف عليها يومئذ من المشركين بعد أن عجزوا عنها في عهد قوتهم وكثرتهم .
[ ص: 150 ] وهذه الآية هي التي يسمونها آية السيف ، واعتمد بعضهم أن آية السيف هي قوله الآتي : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( 36 ) وقال بعضهم : إنها تطلق على كل منهما أو على كلتيهما . ويكثر في كلام الذين كثروا الآيات المنسوخة أن آية كذا وآية كذا من آيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين والجاهلين والمسالمة وحسن المعاملة منسوخة بآية السيف . والصواب أن ما ذكروه من هذا القبيل ليس من النسخ الأصولي في شيء . قال السيوطي في أقسام النسخ من الإتقان ما نصه : ( الثالث ) ما أمر به لسبب ثم يزول السبب ، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر والصفح . ثم نسخ بإيجاب القتال ، وهذا في الحقيقة ليس نسخا ، بل هو من قسم المنسأ كما قال تعالى ( أو ننسها ) فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون ، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى ، وبهذا يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآية في ذلك منسوخة بآية السيف ، وليس كذلك ، بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم ، بل ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إنما . وقال النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله : ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة : مكي فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ( 2 : 109 ) محكم غير منسوخ ؛ لأنه مؤجل بأجل ، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه اهـ .
وقال بعضهم وعزاه الآلوسي إلى الجمهور : إن الآية تدل بعمومها على جواز قتال الترك والحبشة ، كأنه قيل : فاقتلوا الكفار مطلقا . يعنون أنها ناسخة أو مخصصة لحديث : الترك ما تركوكم ، فإن أول من يسلب أمتي ملكهم وما خولهم الله بنو قنطوراء رواه اتركوا من حديث الطبراني كما في الجامع الصغير . وفي فتح الباري أنه رواه من حديث ابن مسعود معاوية ، قال الحافظ : وكان هذا الحديث مشهورا بين الصحابة .
وقتال المسلمين للترك ثابت في الصحيحين . وروى أبو داود من حديث مرفوعا عبد الله بن عمرو الحبشة ما تركوكم فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة وقال العلماء : إن هذا يكون قبيل قيام الساعة ، إذ يبطل أمن الحرم . وروى اتركوا أبو داود عن رجل كان من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : والنسائي الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك ما تركوكم . دعوا
قال الخطابي : إن الجمع بين قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( 36 ) وبين هذا الحديث أن الآية مطلقة ، والحديث مقيد ، فيحمل المطلق على المقيد ، ويجعل الحديث مخصصا لعموم الآية ، كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة ، ومع ذلك أخذ منهم [ ص: 151 ] الجزية لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب الطيبي : ويحتمل أن تكون الآية ناسخة للحديث لضعف الإسلام .
وأقول : قد غفل هؤلاء الذين حاولوا الجمع بين الحديث والآية عن كون الآية في مشركي العرب الذين لا عهد لهم ، والذين نبذت عهودهم ، وضرب لهم موعد الأربعة الأشهر ، والحبشة نصارى من أهل الكتاب ، وفيهم نزل قوله تعالى : ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ( 5 : 82 ) الآيات . ومن المجمع عليه ، التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب والترك كانوا وثنيين عند نزول هذه الآيات كمشركي العرب ، ولكنهم لا يدخلون في عموم الآية . ثم إن الأمر بترك قتال الترك والحبشة جاء تحذيرا من بدئهم بالقتال ، لما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن خطرا على العرب وبلادهم سيقع منهم ، والأمر بقتال مشركي العرب في هذه الآيات مبني على كونهم هم الذين بدءوا المسلمين ، ونكثوا عهودهم كما سيأتي قريبا في قوله : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ( 13 ) وعلى كون قتالهم كافة جزاء بالمثل كما قال وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( 36 ) فكيف يدخل وثنيو الترك ونصارى الحبشة في عموم هؤلاء المشركين الموصوفين بما ذكر حتى نحتاج إلى الجمع بين الآية والأحاديث المذكورة ؟ ولا نأتي هنا قاعدة كون كما هو ظاهر ؛ لأن المراد بها أن اللفظ العام يتناول كل ما وضع له سواء وجد ما كان سببا لوروده أو لم يوجد ، ولفظ المشركين في هذه الآيات لم يوضع لأهل الكتاب المعروفين بالقطع ، ولا لأمثالهم العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كالمجوس مثلا ، وقد بينا تحقيق هذه المسألة في مواضع أبسطها تفسير : ولا تنكحوا المشركات ( ا : 221 ) الآية . [ ص276 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ] ثم تفسير : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ( 5 : 5 ) الآية [ 147 - 162 ج 6 ط الهيئة ] ويليه مباحث في موضوع الآية . ولولا أن هؤلاء المفسرين وشراح الأحاديث ينظرون في كتاب الله وحديث رسوله من وراء حجب المذاهب الفقهية لما وقعوا في أمثال هذه الأغلاط الواضحة ، ولكنا في غنى عن الإطالة في التفسير لبيانها .