وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه الخطاب في هذه الآية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي مخصصة لما في قوله تعالى قبلها : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلى آخره من معنى العموم ، فهي تستثني منهم من طلب منهم الأمان ، ليعلم ما أنزله الله ، وأمره به من دعوة الإسلام ، ذلك بأن بعض المشركين لم تبلغهم الدعوة بلاغا تاما مقنعا ، ولم يسمعوا شيئا من القرآن - وهو الآية المعجزة للبشر الدالة بذاتها على كونه من عند الله ، لا من كلام محمد الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولم يسمعوا منه ما تقوم به الحجة ، وإنما أعرضوا وعادوا الداعي وقاتلوه ؛ لأنه جاء بتفنيد ما هم عليه من الشرك ، وما كان عليه آباؤهم منه ، وقد طبعوا على نعرة العصبية لهم والنضال دونهم ، حتى إنه لو لم تتضمن الدعوة الحكم بجهلهم ، وتسفيه أحلامهم ، لما احتموا عليها كل ذلك الاحتماء ، وقابلوها بكل ذلك العداء ، ويليها في ذلك تحقير آلهتهم ، وأما اختلاف العقيدة وحده فلم يكن يقتضي عندهم كل ذلك ، وقد قال تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ودوا لو تدهن فيدهنون ( 68 : 9 ) وإذا كان - وإنما [ ص: 160 ] كان وجوب القتال لحمايتها ، والحرية في تبليغها ، والعمل بما تتضمنه ، ومنع أهلها وصيانتهم من الفتنة والاضطهاد لأجلها وجب التبليغ قبله ، وكف القتال عمن يظهر الرغبة في سماع كلام الله تعالى ، للعلم بمضمونها ، والوقوف على ما نهى وأمر ، وبشر وأنذر ، وتأمينه في مجيئه إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم العودة إلى دار قومه حيث يأمن على نفسه ، ويكون حرا فيما يختار لها ، وبهذا يكون المشركون الذين بلغوا نبذ عهودهم أو انتهاء مدتها ثلاثة أقسام : ( 1 ) مصر على الشرك وعداوة المسلمين . ( 2 ) مسترشد طالب للعلم وسماع القرآن . ( 3 ) تائب يدخل في الإسلام . الاستجارة : طلب الجوار ، وهو الحماية والأمان ، فقد كان من أخلاق العرب حماية الجار والدفاع عنه ، حتى صاروا يسمون النصير جارا ، ومنه تبليغ الدعوة هو الواجب الأول الأهم المقصود من الرسالة وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ( 8 : 48 ) ومعنى الجملة : وإن استأمنك أيها الرسول أحد من المشركين لكي يسمع كلام الله ، ويعلم منه حقيقة ما تدعو إليه ، أو ليلقاك مطلقا وإن لم يذكر سببا ، فيجب أن تجيره وتؤمنه لكي يسمع ، أو إلى أن يسمع كلام الله ، فإن هذه فرصة للتبليغ والاستماع ، فإذا اهتدى به ، وآمن عن علم واقتناع فذاك ، وإلا فالجواب أن تبلغه المكان الذي يأمن به على نفسه ، ويكون حرا في عقيدته ، حيث لا يكون للمسلمين عليه سلطان قهر ، ولا إكراه على أمر . وتعود حالة الحرب إلى ما كانت من غير عذر .
وسماع ( كلام الله ) يحصل بالقليل والكثير منه ، ولكن المراد الذي يقتضيه المقام أن يسمع منه تعالى ما يراه هو ونراه نحن كافيا للعلم بدعوة الإسلام ، أو القدر الذي تقوم به الحجة منه ، وهو ما يتبين به بطلان الشرك ، وحقيقة التوحيد والبعث ، وصدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبليغه عن الله عز وجل ، وكان العربي منهم يفهم القرآن ، ويشعر من نفسه بأنه معجز للبشر ، ويفهم حججه العقلية والعلمية على التوحيد والرسالة والبعث ، فإذا ألقى إليه السمع وهو شهيد لا يلبث أن يظهر له الحق في هذه الأصول ، فإن لم تصده العصبية ، والتزام العداوة للداعي لا يلبث أن يؤمن ، فإن لم يفعل كان له شأنه وحريته ، ولكن يمنع من مساكنة المسلمين في دار الإسلام والحال والدار ما علمنا . وقيل : إن المراد بالقرآن آيات التوحيد منه ، وقيل : سورة التوبة خاصة أو ما بلغوه منها في الموسم إذ لم يكن كل مشرك سمعه ، والظاهر ما قلناه .
وقد قال بعضهم : إن هذا منسوخ بقوله تعالى في الآية الآتية : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ( 9 : 36 ) وقال بعضهم : بل محكم وهو الحق . قال الحسن : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة ، واعتمده وعليه الجمهور ، والقول الأول مما لا يصح أن يحكى إلا لرده وإبطاله ؛ لأنه يتضمن عدم وجوب تبليغ الدعوة حتى لطالبها ، بل منع [ ص: 161 ] طالبها من سماعها والعلم بها . وقد ذكر ابن جرير الرازي وأبو السعود وغيرهما عن أنه قال : إن رجلا من المشركين قال ابن عباس لعلي : إذا أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة قتل ؟ قال : لا ؛ لأن الله تعالى يقول : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره الآية . فإن صحت هذه الرواية كانت دليلا على أن يقبل ، وإن لم يكن لأجل سماع كلام الله تعالى ، وإن قال بعض المفسرين : إن الحاجة في الرواية لا تعدو غرض الدين ؛ لأن لقاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يكون إلا لذلك ، أي فلا يجاب طلبه إن علم أن الحاجة دنيوية ، وهذا القول غير مسلم فقد كانوا يطلبون لقاءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل الكلام في الصلح وغيره من مصالح دنياهم ، والمتبادر من قوله تعالى : طلب المشرك للأمان والجوار حتى يسمع كلام الله أنه غاية أو تعليل للإجارة لاتصاله بها وحدها ، وأن الاستجارة على إطلاقها .
وقول أبي السعود : إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله بأحد المعنيين يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو بما في معناه من أمور الدين ، غير مسلم ، ولكن محتمل إذا جاز أن تتعلق ( حتى ) بفعلي الاستجارة والإجارة معا ، والذي عليه النحاة في باب تنازع العاملين أن العمل يكون لأحدهما ، والمختار عند البصريين الثاني ، وعند الكوفيين الأول .
ويترتب على جعل ( حتى ) للتعليل أنه لا يجب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يؤمن مشركا إلا لأجل سماع كلام الله ، وتبليغه الدعوة به ، وغيره من أئمة المسلمين ، وقواد جيوشهم أولى وأجدر ألا يجب عليهم ذلك ، وحاصل معناها أن المستجير يجار ويؤمن مهما يكن غرضه من الاستجارة ، ويمتد جواره إلى أن يسمع كلام الله ، وتقوم عليه الحجة به ، فيكون وجوده في دار الإسلام فرصة لتبليغه دعوته على أكمل وجه . ولا يأبى هذا المعنى الأمر بإبلاغه مأمنه بعد ذلك كما ادعى بعضهم ، ولا يظهر جعل الأمر بالإجارة والأمان للوجوب إلا بهذا القصد ، وفيما عداه يكون جائزا يعمل فيه الإمام بالمصلحة . ويجوز الجمع بين الغاية ومعنى التعليل على القول بجواز الجمع بين معنيي المشترك . وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يؤمن الرسل التي ترد من قبل الأعداء ، وهذا مجمع عليه ، وكان يجير من أجاره أي مسلم أو مسلمة ، وذكر من مزايا المؤمنين أنهم " " كما ثبت في الصحيح ، ولا يبعد أن يقال : إن حكم المشركين في تقييد إجارة مستجيرهم في ذلك العهد خاص بهم ، والأمر في معاملة غيرهم من الكفار بعد ذلك أوسع وهو كما يذكر في كتاب الأمان من الفقه . تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم
قال العماد ابن كثير في تفسير الآية : والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من [ ص: 162 ] الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا ، أعطي أمانا ما دام مترددا في الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه . لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من الإقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ، ونقص عن سنة قولان عن وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى اهـ . الإمام الشافعي
وأقول : إن ما ذكره هو المعروف عن أصحابه الشافعية . وفي الترغيب من كتب الحنابلة : ويشترط لصحة الأمان عدم الضرر علينا ، وألا تزيد مدته على عشر سنين ، وفي جواز إقامتهم بدارنا هذه المدة بلا جزية وجهان . انتهى من كتاب الفروع . والتحقيق أن مثل هذه الأحكام التي لا نص فيها من الشارع تناط بالمصلحة ، وتفوض إلى أولي الأمر من الأئمة والسلاطين وقواد الجيوش .
قال تعالى : ذلك بأنهم قوم لا يعلمون أي : ذلك الأمر أو إلى أن يسمع كلام الله ، بسبب أنهم قوم جاهلون لا يدرون ما الكتاب ، وما الإيمان ، فأعرضوا عن دعوة الإسلام بجهل وعصبية ، وكانوا مغترين بقوتهم ، مصرين على جفوتهم ، فإذا كان شعورهم بضعفهم لصدق وعد الله بنصر المؤمنين عليهم قد أعدهم للعلم بما كانوا يجهلون ، وطلبوا الأمان لأجل ذلك أو لغرض آخر يترتب عليه إمكان تبليغهم الدعوة وإسماعهم كلامه عز وجل - وهو الحجة البالغة ، والشفاء لما في الصدور لمن سمعه باستقلال فكر - أجيبوا إليه ؛ لأنه هو الطريقة المثلى لتعليمهم وهدايتهم ، وإنما بعثت أيها الرسول مبشرا ونذيرا ، ورءوفا رحيما . بإجارة المستجير من المشركين ، ليسمع كلام الله
وتدل الآية على أن ، ولا احتمال ، وإن لم يكن منطقيا . ولا يكتفى فيه بالظن الراجح كالفروع العلمية ، ولا بالتقليد ؛ لأنه ليس بعلم ، والآيات المفرقة بين العلم والظن متعددة كقوله تعالى : الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون علما يقينيا لا شك فيه إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 53 : 28 ) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا ( 10 : 36 ) وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ( 45 : 24 ) .
وقال في تفسير الآية : اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك ؛ لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب ألا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك . فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهلنا وأزلنا الخوف عنه ، ووجب علينا أن نبلغه مأمنه ، علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف ، بل لا بد من الحجة والدليل ، فأمهلناه وأخرناه ، ليحصل له مهلة النظر والاستدلال . إذا ثبت هذا فنقول : ليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المهلة كم يكون ، ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف ، فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالبا للحق [ ص: 163 ] باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك ، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم اهـ .
الفخر الرازي