( وإيثار قريش ولاسيما المؤلفة قلوبهم وحرمان الأنصار ) كان السبي ستة آلاف نفس من النساء والأطفال الذين قضى عرف الحرب يومئذ استرقاقهم ، وأعتقهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باسترضاء المستحقين من الغانمين ، فجمع بين سياسة الإسلام في التوسل إلى تحرير الرقيق بجميع الوسائل ، واتقاء تنفير المسلمين ولاسيما حديثي العهد بالإسلام . وكانت الإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أربعين ألف شاة وقيل أكثر ، والفضة أربعة آلاف أوقية . وسبب هذه الكثرة أن مالك بن عوف النصري الذي جمع القبائل للقتال ، ساق مع المقاتلة نساءهم وأبناءهم ومواشيهم وأموالهم لأجل أن يثبتوا ولا يفروا ، فكان ذلك تسخيرا من الله تعالى; ليكونوا غنيمة للمسلمين ، فلما قسمها وأفاض في العطاء على المؤلفة قلوبهم من طلقاء يوم الفتح وجد الأنصار وتحدث بعضهم بذلك ، فجمعهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخطب فيهم فأرضاهم ، وذلك مروي في الصحاح والسنن والمغازي فنذكر أصح الروايات فيه .
روى أحمد والبخاري ومسلم من عدة طرق ، واللفظ هنا من حديث للبخاري قال : عبد الله بن زيد بن عاصم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ، ولم يعط الأنصار شيئا ، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس ، فخطبهم فقال : " يا معشر الأنصار ! " ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن . قال : " ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئا ؟ " قالوا : الله ورسوله أمن . قال : " لو شئتم قلتم جئنا كذا وكذا ، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رحالكم ؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها ، الأنصار شعار ، والناس دثار ، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " . لما أفاء الله على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم
وللشيخين من حديث أنس واللفظ : للبخاري الأنصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي رجالا المائة من الإبل ، فقالوا : يغفر الله لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من [ ص: 230 ] دمائهم . ( قال أنس ) : فحدث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ، ولم يدع معهم غيرهم . فلما اجتمعوا قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " ما حديث بلغني عنكم ؟ " فقال فقهاء الأنصار : أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا ، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " فإني أعطي رجالا حديث عهد بكفر أتألفهم ، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " قالوا : يا رسول الله لقد رضينا ، فقال لهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " ستجدون أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني على الحوض " قال أنس : فلم يصبروا اهـ . وفي رواية فلم نصبر ; لأنه منهم . وفي رواية أخرى عنه قال : قال ناس من الأنصار فقال : " إن قريشا حديث عهد - كذا فيهما - بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم " إلخ . جمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسا من
ولهما من حديث ـ رضي الله عنه ـ واللفظ عبد الله بن مسعود وهو أخصر قال : للبخاري حنين آثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناسا : أعطى الأقرع مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى ناسا فقال رجل : ما أريد بهذه القسمة وجه الله . فقلت : والله لأخبرن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر " وفي رواية له عنه فقال رجل من لما كان يوم الأنصار . قال الحافظ في رواية أي عنه فقال رجل من الأعمش الأنصار ، وفي رواية أنه الواقدي معتب بن قشير بن عوف وكان من المنافقين .
وروى أحمد ومسلم وغيرهما من حديث قال : رافع بن خديج ، أبا سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل ، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك . فقال عباس بن مرداس :
أتجعل نهبي ونهب العبيـ د بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس
يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما
ومن تخفض اليوم لا يرفع
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث زيد بن عاصم المتقدم : " لو شئتم لقلتم جئتنا كذا وكذا " وإنما أبهمه الراوي أدبا معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد فسر في حديث أبي سعيد ولفظه فقال : " " ورواه أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم : أتيتنا مكذبا فصدقناك ، وطريدا فآويناك ، وعائلا فواسيناك أحمد بإسناد صحيح من حديث أنس بلفظ " اهـ . وأقول : هذا من عجائب تواضعه ولطفه ودقائق حكمته وسياسته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ذكر ما لعله يختلج في مثل تلك الحال في قلوب بعضهم بعد ذكر بعض ما من الله تعالى به عليهم من النعم بهدايته ، وما كانوا قبلها إلا قبيلتين من قبائل العرب المتعادية المتباغضة ، لا هم لإحداهما إلا الفتك بالأخرى فصاروا أعز العرب ومفخر الإسلام والمسلمين ونزل فيهم : أفلا تقولون : جئتنا خائفا فأمناك ، وطريدا فآويناك ، ومخذولا فنصرناك ؟ " فقالوا : بل المن علينا لله ولرسوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( 3 : 103 ) الآية . وأثنى عليهم في آيات أخرى يتعبد الملايين من جميع الشعوب بتلاوتها إلى يوم القيامة . وروي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما فرغ من خطبته بكى القوم حتى اخضلت لحاهم بالدموع ـ رضي الله عنهم ـ . وقد بين المحقق ابن القيم في الهدي ما في هذه الغزوة من الحكم والأحكام ، فنذكر منها ما يتعلق بتفسير الآيات من العبرة والحكمة ، وهو قوله نفع الله بعلمه وحكمته .