وأما فالفريقان يخالفان فيه المسلمين ، وكذا الموحدون من اليوم الآخر النصارى ، فإنهم إنما يقولون بأن حياة الآخرة روحانية محضة يكون فيها أهلها من الناس كالملائكة ، ونحن نؤمن بأن الإنسان يكون فيها إنسانا لا تنقلب حقيقته ، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح ، ويتمتع الكاملون الناجون بجميع نعيم الأرواح والأجساد ، وتكون أرواحهم أقوى .
[ ص: 252 ] وليس في التوراة التي في أيدي اليهود والنصارى بيان صريح للبعث والجزاء بعد الموت ، وإنما فيها وفي مزامير داود إشارات غير صريحة .
وأما كونهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه قولان للمفسرين . أحدهما : أن المراد به ما حرم في شرعنا ، ويرد عليه أنه لا يعقل أن يحرموا على أنفسهم ما حرم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا ، وإنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين . والثاني : أنه ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى ، ونسخ بعضه عيسى عليهما السلام ، وحينئذ يكون المراد به في اليهود أنهم لا يلتزمونه كله بالعمل ، كاتباعهم عادات المشركين في القتال والنفي ومفاداة الأسرى ، الذي قال تعالى فيه لهم : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ( 2 : 85 ) كالربا وغير ذلك ، والمراد به في واستحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل النصارى أنهم استباحوا ما حرم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل ، واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع محرمات الطعام والشراب فيها ، إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي : إنه مذبوح لوثن فيراعي ضمير القائل أمامه ، وعلله بأن كل شيء طاهر للطاهرين ، وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم ، وإنما ينجسه ما يخرج منه . وهذا بعض ما يقال في النصارى في عصر التنزيل ، وأما نصارى هذا الزمان ، ولا سيما أهل أوربة ، فإنهم أبعد خلق الله عن كل ما في أناجيلهم من الزهد والسلم والتقشف كما بينا ذلك مرارا . ولكنهم بعد الإسراف في الشهوات ، والطغيان في العدوان ، والإلحاد في الديان ، طفقوا يبحثون في حقيقة الأديان ، فتظهر لهم أنوار الإسلام ، والمرجو أن يهتدوا به في يوم من الأيام .
اختار السيد الآلوسي القول الأول وضعف الثاني ، فقال في تفسير الجملة : المراد به أي: ما ثبت تحريمه بالوحي متلوا وغير متلو ، فالمراد بالرسول نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وقيل : رسولهم الذين يدعون اتباعه فإنهم بدلوا شريعته ، وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم ، فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم ، وإن كان التحريف بعد النسخ ليس له علة مستقلة اهـ .
واختار السيد محمد صديق حسن الثاني فقال في فتح البيان : ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله مما ثبت في كتبهم ، فإن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها ، وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها . قال في الآية : يعني لا يصدقون بتوحيد الله ، وما حرم الله من الخمر والخنزير . وقيل : معناه لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ، ولا ما حرم رسوله في السنة ، والأول أولى . وقيل : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، [ ص: 253 ] بل حرفوهما وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم ، وقلدوا أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أربابا من دون الله اهـ . سعيد بن جبير