وأنت ترى أن من أجل علماء الصوفية ، وقد روى عنه الحارث المحاسبي الجنيد وكان من التمسك بالسنة بحيث لم يأخذ مما خلفه والده من المال الكثير دانقا واحدا على شدة فقره ، وعلل ذلك بأنه لا توارث مع اختلاف الدين ، وما كان والده إلا واقفيا ، أي لا يقول : إن القرآن غير مخلوق ، كما أنه لا يقول : هو مخلوق ، وقد ألف الحارث في أصول الديانات [ ص: 330 ] والزهد على طريق الصوفية فسئل الإمام أبو زرعة عنه وعن كتبه فقال للسائل : إياك وهذه الكتب ، بدع وضلالات ، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب ، قيل له : في هذه الكتب عبرة . فقال : من لم يكن له من كتاب الله عبرة فليس له في هذه عبرة - بلغكم أن مالكا أو أو الثوري أو الأئمة صنفوا كتبا في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء ؟ هؤلاء قوم قد خالفوا أهل العلم ، يأتوننا مرة الأوزاعي ومرة بالمحاسبي بعبد الرحيم الدبيلي ، ومرة - ثم قال - ما أسرع الناس إلى البدع . وروى بحاتم الأصم الخطيب بسند صحيح أن سمع كلام الإمام أحمد فقال لبعض أصحابه : ما سمعت في الحقائق مثل كلام هذا الرجل ، ولا أرى لك صحبتهم انتهى . من تهذيب التهذيب المحاسبي للحافظ ابن حجر ، وتعقبه بقوله ( قلت ) إنما نهاه عن صحبتهم لعلمه بقصوره عن مقامهم ، فإنه مقام ضيق لا يسلكه كل أحد ، ويخاف على من يسلكه ألا يوفيه حقه اهـ .
فإذا صح هذا التعليل الذي قاله الحافظ في بعض أصحاب من خيار علماء السنة ، أفلا يكون غيرهم كدجاجلة هذا الزمان وعوامه أولى بألا ينظروا في كتب من لا يعدون من طبقة الإمام أحمد في العلم والعمل ، بحيث إن إمام السنة الأعظم في عصره ( الحارث المحاسبي ) لم ينكر شيئا مما سمع من كلامه بمخالفته للكتاب والسنة ، وإنما أنكره هو أحمد بن حنبل ; لأنه شيء جديد مبتدع في أمر الدين ، يشغل الناظر فيه عن كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونهى عن صحبتهم لذلك أو لضيق مسلكهم ، وكونه لا يفهمه ويستفيد منه إلا من هو مثلهم كما علله الحافظ . وأبو زرعة
فما القول بعد هذا بكتب من جاء بعد هؤلاء من أصحاب القول بوحدة الوجود وغير ذلك من البدع المصادمة للنصوص ، الذي يقول في خطبة فتوحاته : كمحيي الدين بن عربي
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت
أو قلت رب أنى يكلف
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
فهل يجوز لمسلم أن يجعل كلامه وكلام أمثاله حجة ويتخذه قدوة في عقيدته وعبادته ويدعو العامة إلى ذلك ؟ ونحن نرى المفتونين به من المتصوفة والمتفقهين يقولون : إنه لا يجوز النظر في أمثال هذه الكتب إلا لأهلها من العارفين برموز الصوفية وإشاراتهم الخفية مع العلم بالكتاب والسنة ، وقد ذكر الشعراني ، وهو أشهر داعية في عصره إلى خرافات الصوفية أنه سأل شيخه في التصوف عليا الخواص : لماذا يتأول العلماء ما يشكل ظاهره من نصوص [ ص: 331 ] الكتاب والسنة دون المشكل من كلام العارفين ؟ فأجابه بأن سبب ذلك القطع بعصمة القرآن ، وما صح عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر الدين ، وعدم عصمة هؤلاء الشيوخ من الخطأ انتهى بالمعنى من كتابه الدرر والجواهر ، وهو حق .وإنني أضرب لك مثلا للغرور بكتب هؤلاء الصوفية عن رحمه الله تعالى ، نقل عنه الحارث المحاسبي الشعراني أنه قال : عملت كتابا في المعرفة ، وأعجبت به فبينما أنا ذات يوم أنظر فيه مستحسنا له إذ دخل علي شباب عليه ثياب رثة ، فسلم علي وقال : يا أبا عبد الله المعرفة حق للحق على الخلق أو حق للخلق على الحق ؟ فقلت : أحق على الخلق للحق ، فقال : هو أولى أن يكشفها لمستحقها ، فقلت : بل حق للخلق على الحق ، فقال هو أعدل من أن يظلمهم . ثم سلم علي وخرج . قال الحارث : فأخذت الكتاب وحرقته ، وقلت : لا عدت أتكلم في المعرفة بعد ذلك اهـ .
( أقول ) يعني بالمعرفة هنا المعرفة المصطلح عليها عند الصوفية ، وإنما رجع عنها الحارث لاقتناعه بقول الشاب وتذكره أنها لو كانت مشروعة مرضية لله تعالى لبينها في كتابه فإنه قال : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ( 16 : 89 ) ويروى عن الشهير أنه قال : ليس بعارف من وصف المعرفة عند أبناء الآخرة فكيف عند أبناء الدنيا ؟ يعني أن وصفها لا يجوز إلا لأهلها العارفين ؛ ولهذا اتفق العلماء على أن ذي النون الصوفي ضل وربما كفر ، وأنه لا يجوز سلوك طريقتهم إلا على يد شيخ عارف من الواصلين ، والعلماء العاملين . وقد كان الشيخ من خاض من كلام صوفية الحقائق غير عالم برموزهم محمد أبو المحاسن القاوقجي من كبار العباد المشتغلين بالعلم والحديث ، وقد رويت عنه الأحاديث المسلسلة وغيرها ، وكان من شيوخ طريقة الشاذلي ، فقلت له يوما : إنني لا أحب أن أكون من أهل الطريق المقلدين ، الذين يجتمعون على قراءة حزب البر وهذه الأذكار الاجتماعية في المساجد وغيرها ، وإنما أريد السلوك الصحيح بالرياضة والتعبد السري كالمتقدمين ، فهل لك أن تتولى ذلك معي ؟ قال يا بني إنني لست أهلا لذلك فلا أغشك وأغش نفسي أو كما قال :
ومن كان من أهل العلم والفهم ، وأحب أن يستفيد من كلام خيار الصوفية في الحقائق مع التزام السنة وسيرة السلف في العبادة فعليه بكتاب ( مدارج السالكين ) للمحقق ابن القيم شرح ( منازل السائرين ) لشيخ الإسلام الهروي الأنصاري فإن فيه خلاصة معارف الصوفية التي لا تخالف الكتاب والسنة مع الرد على ما خالفهما ، وأما كتبهم في الأخلاق والآداب الدينية فيغني عنها كلها ( كتاب الآداب الشرعية ، والمنح المرعية ) لابن مفلح الفقيه الحنبلي ، فإنه مستمد من نصوص الكتاب والسنة ، وكلام أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم من جميع المسلمين فهذا ما ننصح به لجمهور المسلمين الذين يطلبون العلم الصحيح للعمل . وثم كتب كثيرة لعلماء [ ص: 332 ] الصوفية مفيدة في فلسفة الأخلاق وعلم النفس وخواص الأرواح ، والاستفادة الصحيحة منها خاصة بأهل البصيرة من العلماء .
ومن خيار الصوفية الوعاظ من المتقدمين ، وقد ذكر منصور بن عمار ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية أن نهى عن كلامه والاستماع للقاص به ، وأن القاضي الإمام أحمد أبا الحسين قال : إنما رأى إمامنا أحمد الناس لهجين بكلامه ، وقد اشتهروا به حتى رووه وفصلوه مجالس يحفظونها ويلقونها ويكثرون فيما بينهم دراستها فكره لهم أن يلهوا بذلك عن كتاب الله ، ويشتغلوا به عن كتب السنة وأحكام الملة لا غير اهـ .
فإن كانت حال الناس هكذا في زمن ، زمن حفظ السنة وروايتها والتفقه والعمل بها ، واشتراك الصوفية في ذلك ، فماذا عسى أن يقال في هذا الزمن وأهله وأنت لا تجد في علماء الإمام أحمد مصر حافظا ، ولا من يصح أن يسمى محدثا ، دع متصوفته الذين يستحوذ على أكثرهم الجهل ، ويوجد فيهم المنافقون الذين يتخذهم الأجانب جواسيس ودعاة للاستعمار ، محتجين بشبهة الرضا بالأقدار ، وهم أكبر مصائب الإسلام في المستعمرات الفرنسية الإفريقية ومن شيوخهم من يأخذ الرواتب المالية من حكامها ، ومن نال بعض أوسمتها الشرفية .
فهذا نموذج من كلام أئمة الإسلام ندعم به ما ذكرناه من الحجج والنصوص في دعوة المسلمين إلى فهم القرآن والاهتداء به ، وبما ورد في السنة من بيانه والاكتفاء بعباداتهما وأذكارهما والاستغناء بها عن كل ما عداها من غير غلو ولا تكلف لما لا يسهل المواظبة عليه ، والتفرغ بعد ذلك إلى القيام بفروض الكفايات من الدفاع عن الإسلام وتعزيزه ، ودفع الأذى والاستعباد والظلم عن أهله ، وإعزاز الأمة بالقوة والثروة بالطرق المشروعة المبنية على الفنون الصحيحة والنظام ، وإنفاقها في سبيل الله ، فهذا أفضل من تلك الأوراد التي لم تبلغ أن تكون من نوافل العبادات على ما فيها من البدع والضلالات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .