هذا بيان عام لحال جميع المنافقين ذكرانهم وإناثهم ، مقرون بالوعيد الشديد على ما أعد لهم من الجزاء مع إخوانهم الكفار على فسادهم وإفسادهم ، يتلوه ضرب المثل لهم بحال أمثالهم في الأمم قبلهم . فاتصالها بما قبلها من بيان شئون المنافقين المتعلقة بغزوة تبوك هو من [ ص: 460 ] قبيل التناسب بين القواعد العلمية في الأخلاق ، والسنن العامة في روابط الاجتماع ، وبين الوقائع الخاصة التي تعد من الشواهد على هذه القواعد والسنن .
قال عز وجل : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي : أهل النفاق من الرجال والنساء متشابهون فيه وصفا وعملا ، كأن كلا منهم عين الآخر كما قيل :
تلك العصا من هذه العصيه هل تلد الحية إلا حيه
وكما قال تعالى في آل إبراهيم وآل عمران : ذرية بعضها من بعض ( 3 : 34 ) وفي استجابته لدعاء الذاكرين المتفكرين : لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ( 3 : 195 ) ثم بين هذا التشابه بقوله : يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم ، المنكر الشرعي : ما ينكره الشرع ويستقبحه ، والمنكر العقلي والفطري : ما تستنكره العقول الراجحة والفطر السليمة ، لمنافاته للفضائل والمنافع الفردية والمصالح العامة ، والشرع : هو القسطاس المستقيم في ذلك كله ، والمعروف : ما يقابل المنكر مقابلة التضاد ، ومن المنكر الذي يأمر به بعضهم بعضا الكذب والخيانة وإخلاف الوعد والفجور والغدر بنقض العهود ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان آية المنافق رواه الشيخان والترمذي من حديث والنسائي . وفي حديث آخر : أبي هريرة رواه أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث . ومن المعروف الذي ينهون عنه الجهاد ، وبذل المال في سبيل الله للقتال وغير القتال . كقولهم الذي ذكر في سورتهم عبد الله بن عمرو هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ( 63 : 7 ) .وقبض الأيدي : ضم أصابعها إلى باطن الكف ، وهو كناية عن الامتناع من البذل ، كما أن بسط اليد كناية عن الإنفاق والبذل ، فهم ينهون الناس عن البذل ، ويمتنعون منه بالفعل ، واقتصر من منكراتهم الفعلية على هذا ؛ لأنه شرها وأضرها ، وأقواها دلالة على النفاق ، كما أن الإنفاق في سبيل الله أقوى الآيات على الإيمان ، والآيات في هذا الإنفاق كثيرة جدا تقدم كثير منها في سورتي البقرة والأنفال وهذه السورة .
نسوا الله فنسيهم أي : نسوا الله أن يتقربوا إليه بالإنفاق في سبيله ، وغير ذلك من فعل ما أمر به ، وترك ما نهى عنه ، يعني أنهم لرسوخهم في الكفر لم يعد يخطر ببالهم أن له تعالى عليهم حق الطاعة والشكر ، فهم لا يذكرونه بشيء من أعمالهم ، وإنما يتبعون [ ص: 461 ] فيها أهواءهم من الرياء ووسوسة الشيطان ، وقد حذرهم ربهم طاعة الشيطان ولاسيما في البخل فقال : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ( 2 : 268 ) الفحشاء : ما فحش قبحه وعظم كالزنا واللواط والبخل الشديد ، وفسرت به في الآية كما فسر الفاحش بالبخيل في قول طرفة بن العبد في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم قفى تعالى على بيانه حالهم هذه بذكر ما أعده لهم ولإخوانهم الكفار من العقاب فقال : وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها الوعد يستعمل في الخير والشر ، وفيما ينفع وفيما يضر ، والوعيد خاص بالثاني ، ولا يكاد يذكر الوعد فيه إلا مع ذكر متعلقه صراحة أو ضمنا كهذه الآية ، وقد فصلنا هذه المسألة في الجزء الثامن من هذا التفسير ( ص378 ) من هذه الطبعة ، وذكر في هذه الآية المنافقات مع المنافقين للنص على أن في النساء نفاقا كالرجال ، وإن كان هذا معروفا في طباع الناس ، كما قرن ذكر الذكور والإناث في صفات الإيمان وأخر ذكر الكفار في مقام الوعيد للإيذان بأن المنافقين وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام - شر من الكفار الصرحاء ، ولاسيما المتدينين منهم بأديان باطلة من الأصل أو محرفة ومنسوخة كأهل الكتاب ، وقد تكرر هذا في القرآن وبينا وجهه .
[ ص: 462 ] وتقدم آنفا ذكر الخلود في جهنم وعيدا على محادة الله ورسوله ، وزاد هنا ثلاثا فقال : هي حسبهم إلخ . فزيادة التشديد في الوعيد للفرق بين جزاء جماعة المنافقين والكفار ، الراسخين في النفاق والكفر ، المتعاونين على أعمالهما ، وجزاء أفراد العاصين لله ورسوله ، فمفاسد هؤلاء الأفراد شخصية كبيرها وصغيرها ، وأما مفاسد جماعات النفاق والكفر القومية والأمم المتعاونة فيها فهي أكبر ; لأنها أعم . والمعنى : أن نار جهنم فيها من الجزاء ما يكفيهم عقابا في الآخرة ولعنهم الله في الدنيا والآخرة بحرمانهم من رحمته الخاصة ، التي لا يستحقها إلا المؤمنون الصادقون ، الذين تذكر صفاتهم في الآيات المقابلة لهذه عقبها ولهم عذاب مقيم أي : ثابت لا يتحول عنهم ، والظاهر من العطف أنه نوع من العذاب نفسي معنوي غير عذاب جهنم الحسي الخاص بها بنوعيه الظاهر والباطن : الظاهر كالسموم الذي يلفح وجوههم ، والحرارة التي تنضج جلودهم ، والحميم الذي يصهر ما في بطونهم ، والزقوم طعام الأثيم ، والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع . والباطن المعبر عنه بقوله تعالى في الحطمة : التي تطلع على الأفئدة ( 104 : 7 ) فهذا النوع المقيم إن كان في الدنيا فهو ما يلصق بقلوب المنافقين من خوف الفضيحة ، وما تقدم بيانه في تفسير قوله تعالى في أموالهم وأولادهم : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا ( 55 ) وغير ذلك من تعذيب الضمير والوجدان ، ولكل طائفة من الكفار عذاب دنيوي مقيم بحسب حالهم ، ولاسيما المعطلين منهم ، الذين لا هم لهم في لذات الدنيا ، فكل ما يفوتهم منها أو ينغصها عليهم لهم فيه عذاب لا يشعر به المؤمنون الراضون بقضاء الله ، الصابرون على بلائه ، الشاكرون لنعمائه ، وإن كان في الآخرة فهو حرمانهم من لقاء الله تعالى وكرامته ، والحجاب دون رؤيته ، كما قال : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم ( 83 : 15 و 16 ) وما يذكيه في قلوبهم إطلاع الله تعالى إياهم على أهل الجنة ، وما هم فيه من النعيم المقيم ، كما تقدم في سورة الأعراف . ولعل هذا هو المراد ، ويدل عليه ما يقابله في جزاء المؤمنين من الرضوان الأكبر الذي عطف على نعيم الجنة ، ولا مانع من شموله لما في الدنيا والآخرة ، ولكنه في عذاب الآخرة المعنوي أظهر ، وأعم وأشمل ، وتقدم ذكر العذاب المقيم في سورة المائدة بما يدل على أنه في النار ( 5 : 37 ) .
كالذين من قبلكم هذا عود إلى خطاب المنافقين الذين نزلت في شأنهم الآيات السابقة واللاحقة ، بعد ذكر حال جنس المنافقين وصفاتهم في كل زمان . يقول لهم : أنتم أيها المنافقون المؤذون لله ورسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمؤمنين ، كأولئك المنافقين الذين خلوا من قبلكم في أقوام الأنبياء ، مفتونون بأموالكم وأولادكم ، مغرورون بدنياكم ، كما كانوا مفتونين ومغرورين بأموالهم وأولادهم ، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم [ ص: 463 ] أي : فكان مطلبهم من أعمالهم وسعيهم التمتع والتنعم بنصيبهم ، وحظهم الدنيوي من الأموال والأولاد ، لم يكن لهم مطلب ولا غرض في الدنيا إلا التمتع بعظمتها تطغيهم بها القوة وبلذاتها تغريهم بها الثروة ، وبزينتها تفرحهم بها كثرة الذرية ; لأنهم لم يكن لهم مقاصد شريفة عالية من الحياة سواها ، كالذي يقصده أهل الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة من إعلاء كلمة الحق ، وإقامة ميزان العدل في الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل كان خلاقهم كخلاق السباع والأنعام من العدوان واللذات البدنية والنسل فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم من القوة والأموال والأولاد سواء ، لم تفضلوا عليهم بشيء من إرشاد كلام الله وهدي رسوله في الفضائل والأعمال الصالحة التي تتزكى بها الأنفس البشرية ، وتكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية ، فكنتم أجدر باللائمة والعقاب منهم ; لأنهم أوتوا من القوة المطغية ، والأموال المبطرة ، والأولاد الفاتنة ، فوق ما أوتيتم ، ولم يروا من آيات الله تعالى ما رأيتم ، ولا سمعوا من حكم كلامه وشرائعه ما سمعتم ، ولا نصب لهم من المثل الأعلى لهداية رسله ما نصب لكم بهدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن الله نزل عليه أحسن الحديث ، وأفضل الكتب ، وأكمل به الدين ، وجعله خاتم النبيين ، أعاد ذكر استمتاع من قبلهم لما يقتضيه التبكيت والتأنيب من الإطناب ; لبيان اختلاف الحالين ، فهو يقول لهم : إنكم فعلتم فعلتهم حذو القذة بالقذة مع توفر الدواعي على ضده وخضتم كالذي خاضوا أي : وخضتم في حمأة الباطل كالخوض الذي خاضوه من كل وجه ، على ما بين حالكم من الفرق ، الذي كان يقتضي أن تكونوا أهدى منهم ، وقال الفراء من علماء العربية إن ( الذي ) تأتي مصدرية :كـ " ما " فيكون التقدير : وخضتم كخوضهم ، وقيل : ( الذي ) هنا للجنس كمن ، وما وأنه بمعنى الذين ولكن هذا ضعيف لفظا ومعنى ، إذ المراد أنكم تخوضون كخوض من قبلكم - وهو الذي يقتضيه العطف - لا كالذين خاضوا مطلقا من أي فريق كانوا .
أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة بكسر الباء حبطا بسكونها وحبوطا : فسد وذهبت فائدته ، وحبط دم القتيل هدر ، وهو من حبط بطن البعير حبطا ( بفتحتين ) انتفخ وفسد من كثرة أكل الحندقوق فلم يثلط ، أي : أولئك المستمتعون بخلاقهم وحظهم مما ذكر ، والخائضون في الباطل حبطت أعمالهم الدنيوية في الدنيا ، فكان ضررها أكبر من نفعها لهم لإسرافهم فيها ، وإفسادهم في الأرض ، كما تحبط بطون الماشية تأكل الخضر فتستوبله فتنتفخ وتفسد ويكون سبب هلاكها ، وحبطت أعمالهم الدينية في الآخرة من العبادات وصلة الرحم وصنع المعروف والصدقة وقرى الضيوف ، فلم يكن لها أجر ينقذهم من عذاب النار ويدخلهم الجنة ; لأنها كانت لأجل الرياء والسمعة وحب الظهور والثناء ، ولأجل أن يعاملوا معاملة [ ص: 464 ] المسلمين وتجري عليهم أحكامهم ، لم تكن لأجل تزكية النفس ، ولا لمرضاة الله عز وجل ، وفي التنزيل عدة آيات في حبوط الأعمال بالشرك والرياء ، أي بطلان ثوابها ، وهو مستعار من حبط بطون الماشية كما تقدم ، ويالها من استعارة فإن الماشية عندما تأكل الخضر من النبات تلذذا به فتكثر به فتستوبله وتستوخمه ، يكون حظها منها فساد بطونها وهلاكها ، بدلا من التغذي والانتفاع الذي تطلبه بشهوتها ، وقيل : إن المراد بحبوط أعمالهم في الدنيا فشلهم وخيبتهم فيما كانوا يكيدون للمؤمنين . حبط العمل
وجملة القول : أن أعمالهم إما دينية وإما دنيوية : فالدينية تحبط كلها في الآخرة ; لأن شرط قبولها الإيمان والإخلاص ، وتحبط في الدنيا إذا ظهر نفاقهم ، وافتضح أمرهم ، ولحبوطها معنى آخر وهو : أنها لا تأثير لها في تهذيب أخلاقهم ، وتزكية أنفسهم من الفحشاء والمنكر ومساوئ الأخلاق ; لأن هذا لا يحصل إلا بالإخلاص . وأما الدنيوية فهي قسمان : ( 1 ) تمتع بالأموال والأولاد والقوة . ( 2 ) كيد ومكر ونفاق . وقد بينا معنى حبوطهما آنفا بما يطرد في أزمنة الأنبياء ، وما يشبهها كعهد الخلفاء الراشدين . وأما أعمال النفاق الدنيوية في أيام الملوك والأمراء الظالمين الفاسقين ، فإنها تكون أكثر رواجا ونتاجا من أعمال الصادقين المخلصين . ولا دليل على فساد الملوك والأمراء والرؤساء أدل من تقريبهم للمنافقين المتملقين منهم ، وإبعادهم للناصحين الصادقين عنهم . قال الصادق الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ : متفق عليه . الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف
وأولئك هم الخاسرون التاموا الخسران ، دون غيرهم ممن لم يكن كل حظهم من نعم الله الاستمتاع العاجل ، والخوض في الباطل ، إذ جاء خسارهم من مظنة الربح والمنفعة . كقوله تعالى : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( 18 : 103 ، 104 ) وكل خسار دون هذا هين كأنه ليس بخسار ، وهذا معنى صيغة الحصر في الجملة ، فهل يعتبر بهذا أهل هذا الزمان ؟ أم هل يعتبر به التالون والمفسرون للقرآن ، أم يقرءونه ويفسرونه لكسب الحطام ؟ .
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات هذا استفهام تقرير وتوبيخ لمن نزلت فيهم الآيات من الكفار والمنافقين في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكرهم بالأقوام الذين ضلوا من قبلهم ووصلت إليهم سيرتهم [ ص: 465 ] وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا منهم ، والمؤتفكات : جمع مؤتفكة من الائتفاك : وهو الانقلاب والخسف وهي قرى قوم لوط . وقد فصل التنزيل قصصهم في عدة سور ، وبين هنا خلاصة نبئهم ومحل العبرة فيه بقوله : أتتهم رسلهم بالبينات أي : فأعرضوا عنها وعاندوا الرسل ، فأخذهم العذاب وهو الطوفان الذي أغرق قوم نوح ، والريح العقيم التي أهلكت عادا قوم هود ، والصيحة التي أخذت ثمود ، والعذاب الذي هلك به النمرود الذي حاول إحراق إبراهيم ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها : فما كان الله ليظلمهم ما كان ليفعل كذا ، معناه : ما كان من شأنه . وهو يتضمن نفي الفعل بدليله فهو أبلغ منه أي : فما كان من سنة الله ، ولا من مقتضى عدله وحكمته أن يظلمهم بما حل بهم من العذاب ، وقد أنذرهم وأعذر إليهم ليجتنبوه ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بجحودهم وعنادهم ، وعدم مبالاتهم بإنذار رسلهم . والمراد من ضرب هذا المثل للكافرين برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المجاهرين والمنافقين ، أن سنة الله في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة ، فلا بد أن يحل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا ، كما قال في سورة القمر : أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر ( 54 : 43 ) ؟ .
وأما قوم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد أهلك الله تعالى أكابر الجاحدين المعاندين منهم في أول غزوة هاجموه فيها وهي غزوة بدر ، ثم خذل الله من بعدهم في سائر الغزوات وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ( 33 : 26 ) و هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ( 59 : 2 ) ثم صار الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، وأما المنافقون فما زالوا يكيدون له في السر ، حتى فضحهم الله تعالى بهذه السورة في آخر الأمر فتاب أكثرهم ، ومات زعيمهم عبد الله بن أبي بغيظه وكفره ، ولم تقم للنفاق قائمة من بعده ، وسيأتي في هذه السورة نبأ موته ، ولو بقي لهم قوة يكيدون بها للإسلام لما خفي أمرها على المؤرخين ، كان قوم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا التمحيص خير أقوام النبيين ، نشر الله تعالى بهم أعلام هذا الدين ، فسادوا به جميع العالمين ، ولولا ما أحدثه الروافض المنافقون ، والخوارج المغرورون ، من الشقاق بين المسلمين ، لعمت سيادة الإسلام جميع العالمين .