هاتان الآيتان تهديد للمنافقين ، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين ، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام ، من الأقوال والأفعال ، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه ، وكذبهم الله تعالى في إنكارهم ، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين ، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر واللين ، وغير ذلك مما يأتي بيانه في هذه السورة . قال عز وجل : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم أي : ابذل جهدك في مقاومة الفريقين الذين يعيشون مع المؤمنين بمثل ما يبذلون من جهدهم في عداوتك ، وعاملهم بالغلظة والشدة الموافقة لسوء حالهم ، وقدم ذكر الكفار في جهاد الدنيا ; لأنهم المستحقون له بإظهارهم لعداوتهم له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما جاء به ، والمنافقون يخفون كفرهم وعداءهم ويظهرون الإسلام فيعاملون معاملة المسلمين في الدنيا ، وقدم ذكر المنافقين في جزاء الآخرة ; لأن كفرهم أشد ، وعذرهم فيه أضعف ، وقد تقدم تفسير الجهاد بمعناه العام المستعمل في القرآن ، وبمعناه الخاص بالقتال في مواضع أجمعها الاستطراد الذي كتبناه في آخر آية الجزية ( ص269 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) وفيها أن الجهاد مشاركة من الجهد وهو الطاقة والمشقة كالقتال من القتل ، وأنه حسي ومعنوي ، وقولي وفعلي ، واتفق علماء الملة على أن ، فلا يقاتلون إلا إذا أظهروا الكفر البواح بالردة ، أوبغوا على جماعة المسلمين بالقوة ، أو امتنع بعض طوائفهم من إقامة شعائر الإسلام [ ص: 474 ] وأركانه ، وروي في تفسير الآية المأثور عن المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين ـ رضي الله عنه ـ قال : ابن عباس بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان ، ففسر الكفار هنا بالحربيين ، وسيأتي من جهاد الكفار حرمانهم من الخروج والقتال مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن صلاته على جنائزهم ، وعن جهاد المنافقين ـ رضي الله عنه ـ قال ابن مسعود لما نزلت : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين أمر رسول الله أن يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر ، فقوله : " فليلقه " يفهم منه أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة ، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة ، فهو إذا بمعنى إزالة المنكر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان من رأى منكم منكرا فليغيره بيده رواه الجماعة - إلا - من حديث البخاري ـ رضي الله عنه ـ ، وزاد أبي سعيد الخدري : لقاء الكافر أو المنافق بوجه مكفهر أي : عبوس مقطب ، ولكن لا يظهر جعله دون كراهة القلب ، ولا أن كراهة القلب لا تستطاع ، ولم نقف على سند هذا الحديث فنعرف مكانه من الصحة . ابن مسعود
وكان ، والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين ، روى الشيخان من شمائله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلاقة الوجه وأبو داود عن والترمذي عائشة : " عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يا عائشة متى عهدتني فاحشا ؟ إن منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره شر الناس عند الله " وكان ذلك الرجل على الراجح أن رجلا استأذن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال : بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ، فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عيينة ابن حصن الذي تقدم ذكره في المؤلفة قلوبهم في سياق قسمة الغنائم بعد غزوة حنين وسياق مصارف الزكاة ، وكان سيد قومه على حماقته ، فلقب بالأحمق المطاع وقد أسلموا تبعا له ، فكان إسلامهم أصح من إسلامه .
ولا تعارض بين الحديثين لأن حديث عائشة من شمائل النبي وآدابه العامة .
وحديث في معاملة خاصة بالمنافقين والكفار هي من قبيل العقوبة ، فالأول بمعنى قوله تعالى : ابن مسعود فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ( 3 : 159 ) وفي معناه أحاديث كثيرة ، والثاني مفسر للآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وفي معناها قوله تعالى : قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ( 9 : 123 ) والغلظة في اللغة : الخشونة والشدة ، ومعاملة العدو المحارب بهما من الشيء في موضعه ، ومعاملته باللين والرحمة وضع لهما في غير موضعهما .
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
[ ص: 475 ] وأما الأعداء غير المحاربين كالمنافقين الذين قال الله عنهم لرسوله : هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 63 : 4 ) والكفار المعاهدين والذميين الخائنين فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعاملهم أولا بلطفه ولينه بناء على حكم الإسلام الظاهر ، وكانت هذه المعاملة هي التي جرأت المنافقين على أذاه بما تقدم في هذا السياق ، ومنه قولهم فيه : " هو أذن " ( 61 ) وكذلك كفار اليهود ، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاهدهم ووفى لهم ، وكانوا يؤذونه حتى بتحريف السلام عليه بقولهم : السام عليكم ، وهو الموت ، فيقول : " وعليكم " ثم تكرر نقضهم لعهده حتى كان من أمرهم ما تقدم بيانه في تفسير سورة الأنفال ( ص46 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم - ومثلها بنصها في سورة التحريم - وهو جهاد فيه مشقة عظيمة ; لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين ، وشدته في قتاله للأعداء الحربيين ، يجب فيه إقامة العدل ، واجتناب الظلم ، ومن كلام عمر ـ رضي الله عنه ـ فيه : أذلوهم ولا تظلموهم ، وهذه الغلظة الإرادية ( أي غير الطبيعية ) تربية للمنافقين وعقوبة ، يرجى أن تكون سببا لهداية من لم يطبع الكفر على قلبه ، وتحيط به خطايا نفاقه ، فإن اكفهراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون ، وبه وبما سيأتي يفقدون جميع منافع إظهار الإسلام الأدبية ، ومظاهر أخوة الإيمان وعطفه ، فمن رأى أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه ، من الرئيس والإمام الأعظم وغيره يضيق صدره ، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة ، فيراها إذا أنصف وتدبر مليمة مذنبة فلا يزال ينحي عليها باللائمة ، حتى تعرف ذنبها ، وتثوب إلى رشدها ، فتثوب إلى ربها ، وهي سياسة حكمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين ، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين .هذا وإن معاشرة الرئيس من إمام وملك وأمير لمنافقي قومه بمثل ما يعاشر به المخلصين منهم ، فيه توطين لأنفسهم على النفاق ، وحمل لغيرهم على الشقاق ، فكيف إذا وضع المحاسنة موضع المخاشنة ، والإيثار لهم حيث تجب الأثرة عليهم ، وبالغ في تكريمهم بالحباء والاصطفاء ، لمبالغتهم في التملق له ، ودهان الدهاء ، والإطراء في الثناء ؟ فإن هذه المعاملة مفسدة لأخلاق الدهماء ، ومثيرة لحفائظ المخلصين الفضلاء ، وكم أفسدت على الملوك الجاهلين أمرهم ، وكانت سببا لإضاعة ملكهم .
ومأواهم جهنم وبئس المصير هذا جزاؤهم في الآخرة عطفه على جزائهم في الدنيا ، فهم لا مأوى لهم يلجئون إليه هنالك إلا دار العذاب الكبرى ، التي لا يموت من أوى إليها ولا يحيا ، فهم يصيرون إليها معتولين ، ويدعون إليها مقهورين ، لا يأوون إليها مختارين ، وبئس المصير هي إنها ساءت مستقرا ومقاما ( 25 : 66 ) .