وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم
هذا بيان لحالة ، الذي هو أقوى آيات الإيمان بالله ورسوله وما جاء به ، وما يقابله من حال المؤمنين الصادقين فيه ، وما بين الحالين من التضاد في العمل والأثر في القلب اللذين هما مناط الجزاء ، قال تعالى : المنافقين في أمر الجهاد بالمال والنفس وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله شرطية " إذا " في هذا المقام تفيد التكرار ، والآية معطوفة على ما قبلها من خبر المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد للجمع بين تلك الحال الخاصة ، وهذه الشنشنة العامة ، والمعنى : أنه كلما نزلت سورة تدعو الناس أو المنافقين ببعض آياتها إلى الإيمان بالله ، والجهاد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أي : ناطقة بأن آمنوا وجاهدوا استأذنك أولو الطول منهم الطول : بالفتح يطلق على الغنى والثروة ، وعلى الفضل والمنة ، وهو من [ ص: 502 ] مادة الطول ( بالضم ) ضد القصر . والمراد بهم هنا أولو المقدرة على الجهاد المفروض بأموالهم وأنفسهم ، أي : استأذنوك بالتخلف عن الجهاد وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين أي : دعنا نكن مع القاعدين في بيوتهم من الضعفاء والزمنى العاجزين عن القتال ، والصبيان والنساء غير المخاطبين به .
وفي معنى الآية قوله تعالى في سورة القتال - أو محمد : ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم ( 47 : 20 و 21 ) والآيات دليل على ، ورضاهم لأنفسهم بالذل والهوان . جبن المنافقين وضعفاء الإيمان
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف من النساء - وروي هذا عن ابن عباس وقتادة - ومن لا خير فيهم من أهل الفساد ، فهو جمع خالفة ، وتقدم بيان ما قاله علماء اللغة فيه في تفسير : فاقعدوا مع الخالفين من آية ( 83 ) .
وطبع على قلوبهم الطبع على القلوب والختم عليها عبارة عن عدم قبولها لشيء جديد من العلم والموعظة غير ما استقر فيها واستحوذ عليها ، وصار وصفا ووجدانا لها ، وقد بينا الاستعمال اللغوي حقيقته ومجازه للكلمة في تفسير : ختم الله على قلوبهم ( 2 : 7 ) وفي مواضع أخرى من سورة النساء والأعراف .
فهم لا يفقهون أي : فلأجل ذلك هم لا يفهمون ما يخاطبون به فهم تدبر واعتبار فيعملوا به ، وقد بينا حقيقة معنى الفقه في مواضع أبسطها تفسير لهم قلوب لا يفقهون بها ( 7 : 179 ) من سورة الأعراف ، وفيه تحقيق معنى القلب .
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم هذا استدراك على قعود المنافقين عن الجهاد مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عملا بداعي الإيمان ، وأمر الله في القرآن ; لأن ما جروا عليه من النفاق قد طبع على قلوبهم بمقتضى سنة الله تعالى في التأثير والارتباط [ ص: 503 ] بين العقائد والأعمال ، والفعل والانفعال ، فهم لا يفقهون ما أمروا به فيعملوا به ، لكن الرسول والذين آمنوا به ، وكانوا معه في كل أمور الدين لا يفارقونه ، قد جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فقاموا بالواجب خير قيام ، كما يقتضيه الإيمان والإسلام ، وما كان أولئك المنافقون الجبناء البخلاء بأهل للقيام بهذه الأعباء ، كما تقدم فيما وصفوا به من الآيات ، ولاسيما آية : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ( 47 ) .
وأولئك لهم الخيرات عطف جزاءهم على جهادهم ، ولم يذكره مفصولا مستأنفا ، كقوله السابق في المؤمنين والمؤمنات : أولئك سيرحمهم الله ( 71 ) وقوله في سورة البقرة أولئك على هدى من ربهم ( 2 : 5 ) الآية . لأنه تتمة لبيان حالهم المخالفة لحال المنافقين بدءا وانتهاء عملا وجزاء ، أي : وأولئك المجاهدون بعيدو المنال في معارج الكمال ، لهم دون المنافقين الخيرات التي هي ثمرات الإيمان والجهاد ، من شرف النصر ، ومحو كلمة الكفر . واجتثاث شجرة الشرك ، وإعلاء كلمة الله ، وإقامة الحق والعدل بدين الله ، والتمتع بالغنائم والسيادة في الأرض : وأولئك هم المفلحون أي الفائزون بسيادة الدنيا مع سعادة الآخرة - دون أولئك المنافقين الذين حرموا منهما بنفاقهم ، وما له من سوء الأثر في أعمالهم وأخلاقهم ، وتقدم مثل هذا وما يناسبه ويؤيده مكررا في هذا السياق .
أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم . تقدم معنى هذه الآية بما هو أوسع من هذه في الآية 72 وسيأتي مثلها في آخر الآية المتممة للمائة .