هذه الآية في بيان حال الأعراب خاصة ، وهم بدو العرب طلبوا الإذن بالتخلف ، والذين تخلفوا بغير إذن ، عقب بيان حال منافقي الحضر في مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 504 ] وستأتي آيات أخرى في منافقي الأعراب ومؤمنيهم في الآيات 97 ، 98 ، 99 قال عز وجل : وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم المعذرون بالتشديد : اسم فاعل من التعذير كالمقصرون من التقصير . هكذا قرأ الكلمة جمهور القراء ، وقرأها يعقوب بالتخفيف من الإعذار ، وروي هذا عن ، ولكن من طريق ابن عباس الكلبي ، وكذا عن مجاهد . وقد تقدم في تفسير الآية 66 معنى العذر والاعتذار . والإعذار إبداء العذر ، ومنه المثل " أعذر من أنذر " وأعذر : ثبت له عذر - وقصر ولم يبالغ وهو يرى أنه مبالغ ، كأنه ضد - وكثرت ذنوبه وعيوبه ، وله معان أخرى كما في القاموس ( قال ) وقوله تعالى : وجاء المعذرون بتشديد " الذال " المكسورة أي : المعتذرون الذين لهم عذر ، وقد يكون المعذر غير محق ، فالمعنى : المقصرون بغير عذر اهـ . وزاد شارحه ، ومعنى المعذرون الذين يعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن . وهو هاهنا شبيه بأن يكون لهم عذر ، ويجوز في كلام العرب المعذرون بكسر العين المهملة . الذين يعذرون : يوهمون أن لهم عذرا ولا عذر لهم . قال أبو بكر : ففي المعذرين وجهان : إذا كان المعذرون من عذر الرجل فهو معذر فهم لا عذر لهم ، وإذا كان المعذرون أصله المعتذرون فألقيت فتحة التاء على العين ، وأبدل منها " ذال " وأدغمت في " الذال " التي بعدها فلهم عذر . وقال أبو الهيثم في تفسير الآية معناه المعتذرون . يقال : عذر عذارا في معنى اعتذر ، ويجوز عذر الرجل يعذر عذرا فهو معذر . قال ومثله : هدى يهدي هداءإذا اهتدى . قال الله : أمن لا يهدي إلا أن يهدى ( 10 : 35 ) اهـ .
وقد أطال ابن منظور في الكلام على المادة والمراد منها في الآية .
والحكمة في القراءتين على اختلاف معاني الصيغتين بيان اختلاف أحوال أولئك الأعراب في أعذارهم ، فمنهم من له عذر صحيح هو موقن به ، ومن له عذر صوري لا حقيقي وهو يوهم أنه حقيقي عالما بأنه مخادع ، ومنهم من له عذر ضعيف هو في شك منه إن نوقش فيه عجز عن إثباته ومنهم من لا عذر له في الواقع فهو كاذب في انتحاله ، وهذا من إيجاز القرآن العجيب بالإتيان بلفظ مفرد يتناول هذه الأقسام كلها ، مبهمة إلا عند أهلها للحكمة الآتية المقتضية لإبهامها .
والمعنى : وجاء الذين يطلبون من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأذن لهم في التخلف عن الخروج إلى تبوك امتثالا للنفير العام ، من أولي التعذير والإعذار ، قال الضحاك : هم رهط [ ص: 505 ] عامر بن الطفيل جاءوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفاعا عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله : إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ، فقال لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " قد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله عنكم " وقال : هم قوم تخلفوا بعذر بإذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقول : وظاهره أن عذرهم حق ، وهو يصدق ببعضهم دون بعض ، كمقابله الذي يذكر عن ابن عباس أبي عمرو .
وقعد الذين كذبوا الله ورسوله أي : وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب ، أي : أظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما ، يقال - كما في الأساس - كذبته نفسه إذا حدثته بالأماني والأوهام التي لا يبلغها ، وكذبته عينه إذا أرته ما لا حقيقة له . قال الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
وهؤلاء هم المنافقون الأقحاح . قال : كلا الفريقين كان مسيئا : قوم تكلفوا عذرا بالباطل ، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله : أبو عمرو بن العلاء وجاء المعذرون وقوم تخلفوا من غير عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون ، فأوعدهم الله بقوله : سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم الظاهر المختار أن هذا الوعيد يعود على ما قبله من الفريقين عاما في المكذبين ، وخاصا ببعض المعذرين كما هو المتبادر من قوله تعالى : ( منهم ) أي الأعراب الذين اعتذر بعضهم وقعد بعض ، فإن الذين كذبوا الله ورسوله كلهم كفار ، وأما المعتذرون فمنهم الصادق في عذره والكاذب فيه لمرض في قلبه ، أو لتكذيبه لله ورسوله ، وكل منهم يعرف نفسه فيحاسبها إذا وجد الوعيد موضعا للعبرة منها ، ولو جعل التبعيض لهم وحدهم لظل القاعدون الكاذبون بغير وعيد وهم شر من شرهم ، فلا يصح التبعيض فيهم وحدهم ، ومن ثم اقتضى التحقيق أن يوجه الوعيد إلى الذين كفروا منهم لكفرهم لا لاعتذارهم ، وإلى الذين قعدوا لكفرهم لا لقعودهم ، بل للكذب الذي كان سببه وهو عين الكفر ، وهو لم يذكر بصيغة الحصر ; لأن من القعود ما يكون بعذر من الأعذار المنصوصة في الآية التالية ، وهم أولو الضرر في قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ( 4 : 95 ) إلخ . فالإبهام لمستحقي هذا الوعيد من الفريقين [ ص: 506 ] من بلاغة القرآن التي امتاز بها إعجازه البياني ، وهذا العذاب الأليم يراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا كما تقدم في آخر الآية ( 74 ) .