والله أعلم بأعدائكم أي : والله أعلم منكم بأعدائكم ، ذواتهم كالمنافقين الذين تظنون أنهم منكم وما هم منكم ; وأحوالهم وأعمالهم التي يكيدون بها لكم في الخفاء وما يغشونكم به في الجهر بإبراز الخديعة في معرض النصيحة ، وإظهار الولاء لكم والرغبة في نصركم : وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ، لكم يتولى شئونكم بإرشادكم إلى ما فيه خيركم وفوزكم ، وينصركم على أعدائكم بتوفيقكم للعمل بأسباب النصر من الاجتماع ، والتعاون ، والتناصر ، وإعداد جميع ما يستطاع من وسائل القوة ، فلا تغتروا بولاية غيره ولا تطلبوا النصر إلا منه باتباع سننه في نظام الاجتماع وهدايته في القرآن ، ومنها عدم الاعتماد على الأعداء ، وأهل الأثرة الذين لا يعملون إلا لمصلحة أنفسهم كاليهود : وكفى بالله وليا أبلغ من كفى الله وليا ، أو كفى ولاية الله ; لأن الكفاية تعلقت بذاته من حيث ولايته .
[ ص: 113 ] قد كان اليهود في الحجاز كالمشركين أشد عداوة للمسلمين ومقاومة لهم ، كما أخبرنا العليم الخبير في سورة المائدة ، ثم كان من مصلحتهم فوز المسلمين في فتح سورية وفلسطين ، ثم الأندلس ليسلموا بعدها من ظلم النصارى لهم في تلك البلاد ، فكانوا مغبوطين بالفتح الإسلامي ، وقد كانوا يظلمون قبله وبعده في جميع بقاع الأرض غير الإسلامية ، حتى كان ما كان ـ بكيدهم وسعيهم ـ من هدم صروح استبداد البابوات والملوك المستعبدين لهم في أوربا ، وإدالة الحكومات المدنية من حكم الكنيسة ، فظلوا يظلمون في روسية وإسبانية ؛ لأن السلطة فيهما دينية ، وقد كادوا ولا يزالون يكيدون لهدم نفوذ الديانة النصرانية من هاتين المملكتين باسم الحرية والمدنية ونفوذ الجمعية الماسونية كما فعلوا في فرنسا ، وإن لهم يدا فيما كان في روسية من الانقلاب ، وفيما تتمخض به إسبانية الآن ، فهم يقاومون كل سلطة دينية تقف في وجههم لأجل تكوين سلطة دينية لهم ، وقد كانت لهم يد في الانقلاب العثماني ، لا لأنهم كانوا مظلومين أو مضطهدين في المملكة العثمانية ; فإنهم كانوا آمن الناس من الظلم فيها حتى إنهم كانوا يفرون إليها لاجئين من ظلم روسية وغيرها ، وإنما يريدون أن يملكوا بيت المقدس وما حوله ليقيموا فيها ملك إسرائيل ، وكانت الحكومة العثمانية تعارضهم في امتلاك الأرض هناك فلا يملكون شيئا منها إلا بالحيلة والرشوة ، ولهم مطامع أخرى مالية في هذه البلاد ، فهم الآن يظهرون المساعدة للحكومة العثمانية الجديدة لتساعدهم على ما يبتغون ، فإذا لم تتنبه الأمة العثمانية لكيدهم ، وتوقف حكومتها عند حدود المصلحة العامة في مساعدتهم ، فإن الخطر من نفوذهم عظيم وقريب ; فإنهم قوم اعتادوا الربا الفاحش فلا يبذلون دانقا من المساعدة إلا لينالوا مثقالا أو قنطارا من الجزاء ، وإذا كانوا بكيدهم وأموالهم قد جعلوا الدولة الفرنسية ككرة اللاعب في أيديهم فأزالوا منها سلطة الكنيسة ، وحملوها على عقوقها وكانت تدعى بنت الكنيسة البكر ، وحملوها على الظلم في الجزائر وهي التي تفاخر الأمم والدول بالعدل والمساواة ، عملوا فيها عملهم ، وهي في الذروة العليا من العلم والمدنية ، والسياسة ، والثروة ، والقوة ، أفلا يقدرون على أكثر منه في الحكومة العثمانية ، وهي على ما نعلم من الجهل والضعف والحاجة إلى المال ؟ وطمعهم فيها أشد وخطره أعظم ، فإن بيت المقدس له شأن عظيم عند المسلمين والنصارى كافة ، فإذا تغلب اليهود فيه ليقيموا فيه ملك إسرائيل ويجعلوا المسجد الأقصى ( هيكل سليمان ) وهو قبلتهم معبدا خالصا لهم يوشك أن تشتعل نيران الفتن ويقع ما نتوقع من الخطر ، وفي الأحاديث المنبئة عن فتن آخر الزمان ما هو صريح في ذلك ، فيجب أن تجتهد الأمة العثمانية في درء ذلك ، ومدافعة سيله بقدر الاستطاعة ؛ لئلا يقع في إبان ضعفها فيكون قاضيا على سلطتها ونسأل الله السلامة .