وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله كالرخاء والخضب والظفر والغنيمة ، كانوا يضيفون الحسنة إلى الله - تعالى - لا بشعور التوحيد الخالص بل غرورا بأنفسهم ، وزعما منهم أن الله أكرمهم بها عناية بهم ، وهروبا من الإقرار بأن شيئا من ذلك أثر ما جاءهم به الرسول من الهداية ، وما حاطهم به من التربية والرعاية ، ولذلك كانوا ينسبون إليه السيئة وهو - صلى الله عليه وسلم - بريء من أسبابها ، دع إيجادها وإيقاعها ، وذلك قولهم : الحسنة ما يحسن عند صاحبه وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ، والسيئة ما يسوء صاحبه كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل ، كان المنافقون والكفار من اليهود وغيرهم إذا أصاب الناس في المدينة سيئة بعد الهجرة يقولون هذا من شؤم محمد قل كل من عند الله ، قل أيها الرسول : إن كلا من الحسنة والسيئة من عند الله لوقوعها في ملكه على حسب سننه في نظام الأسباب والمسببات فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا أي : فما بال هؤلاء القوم ، وماذا أصاب عقولهم حال كونها بمعزل عن الغوص في أعماق الحديث وفهم مقاصده وأسراره ! فهم لا يعقلون حقيقة حديث يلقونه ولا حقيقة حديث يلقى إليهم قط ، وإنما يأخذون بما يطفو من المعنى على ظاهر اللفظ بادئ الرأي ، والفقه معرفة مراد صاحب الحديث من قوله وحكمته فيه من العلة الباعثة عليه والغائية له ، وإذا كانوا قد فقدوا هذا الفقه وحرموه من كل حديث ، فأجدر بهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن وحي ربه في حقيقة التوحيد ونظام الاجتماع وسنن الله في الأسباب والمسببات ، فهذه المعارف العالية لا تنال إلا بفضل الروية وذكاء العقل وطول التدبر ، ومن نالها لا يقول بأن سيئة تقع بشؤم أحد ، وإنما يسند كل شيء إلى السبب ، أو إلى واضع الأسباب والسنن ، ولكل مقام مقال .
وفيه أنه يجب على العاقل الرشيد أن يطلب فقه القول دون الظواهر الحرفية ، فمن اعتاد الأخذ بما يطفو من الظواهر دون ما رسب في أعماق الكلام وما تغلغل في أنحائه وأحنائه يبقى جاهلا غبيا طول عمره .
بعد أن بين حقيقة الأمر في السيئات والحسنات بالنسبة إلى موضوعها وسنن الاجتماع فيها ، وأنها كلها تضاف بهذا الاعتبار إلى الله - عز وجل - ، أراد أن يبين حقيقة الأمر فيها من وجه آخر فقال :
[ ص: 218 ]