ثم بين - تعالى - حكم
nindex.php?page=treesubj&link=33480_9290قتل المؤمن تعمدا بما يوافق مفهوم هذه الآية من كونه ليس من شأنه أن يقع من مؤمن ، فلم يذكر له كفارة بل جعل عقابه أشد عقاب توعد به الكافرين فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ، قال الأستاذ الإمام : هذا فرع عن كون القتل ليس من شأن المؤمن مع المؤمن لأنه ينافي الإيمان ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هذه الآية آخر آية نزلت في عقاب القتل ، وقال بعض الصحابة : إن قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( 4 : 48 ) ، نزل قبل هذه الآية بستة أشهر ، فهذه الآية مخصصة له وقد قلنا من قبل : إن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48لمن يشاء ، فيه مع تغليظ أمر الشرك أن كل شيء بمشيئته تعالى ، فلو شاء أن يخصص أحدا بالمغفرة فلا مرد لمشيئته ، وقد يقال : إنه أخرج من هذه المشيئة من يقتل مؤمنا متعمدا ، فآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، نزلت ترغيبا للمشركين الذين آذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإيمان ، وهم الذين نزل فيهم
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=38إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ( 8 : 38 ) ، وقد نقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن قاتل العمد لا توبة له وقالوا : إن آية الفرقان نزلت في المشركين ، والتوبة فيها متعلقة بعدة أعمال منها القتل ومنها الشرك ، أقول : ويعني بآية الفرقان قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( 25 : 70 ) ، بعد أن ذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، وتوعد على ذلك كله بمضاعفة العذاب والخلود فيه .
( قال ) : وقد يقال :
nindex.php?page=treesubj&link=32479_32482_32481كيف تقبل التوبة من المشرك القاتل الزاني ، ولا تقبل من المؤمن الذي ارتكب القتل وحده ؟ ويمكن أن يجاب - من القائلين بعدم توبة القاتل - بأن المشرك الذي لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور له شبه عذر ; لأنه كان متبعا لهواه بالكفر وما يتبعه ، ولم يكن ظهر له صدق النبوة وما يتبع ذلك ، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه هو كفر وضلال تاب وأناب وآمن وعمل الصالحات ، فهو جدير بالعفو وإن كان في إجرامه السابق مقصرا في النظر والاستدلال ، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وتحريم الله للقتل
[ ص: 277 ] وجعله قاتل النفس البريئة كقاتل الناس جميعا فلا عذر له ، بل لا يعقل أن يرجح هواه على إيمانه مع أنه لم يطرأ على إيمانه من الشك الاضطراري ما يكون له شبه عذر ، أما إذا طرأ عليه ذلك فإن حكمه حكم القاتل الكافر ، وذلك أن الكافر الذي بلغته الدعوة ولم يؤمن لم يعرض عن الإيمان إلا لأن الدليل لم يظهر له على صحة النبوة ، وهو يعاقب على التقصير في النظر وتصحيح الاستدلال حتى يخلد في النار ، وإذا أحسن النظر وتبين له الهدى فآمن واهتدى يغفر له ما قد سلف في زمن الكفر ; لأنه كان عملا مرتبا على الكفر ، والكفر نفسه كان خطأ منه فأشبه قتله قتل الخطأ ، ومثله من أخطأ في الدليل بعد التسليم به لشبهة عرضت له فيه ، فمعصيته لم تكن تهاونا بأمر الله - عز وجل - ولا استهزاء بآياته ولا دليلا على إيثاره لهواه على ما عند الله .
أما القاتل المؤمن فأمره على غير ذلك ، فإنه مؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به إيمان يقين وإذعان لما جاء به الدين من تعظيم أمر الدماء ، وهو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير بحكم الإيمان ، فكيف يعمد بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه ، وحل ما عقده ، وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته ، وتجرئة الناس على مثل ذلك حتى يهن المسلمون ويضعفوا ويكون بأسهم بينهم شديدا ؟ لا جرم أن عقابه يكون شديدا لا تقبل توبته .
ومن نظر إلى انحلال أمر الإسلام والمسلمين بعدما أقدم بعضهم على سفك دم بعض من زمن طويل يظهر له وجه هذا ، وأن القاتل لا يعذر بهذه الجرأة على هذه الجريمة وهو لم تعرض له شبهة في أمر الله ، إذ لا رائحة للعذر في عمله بل هو مرجح للغضب وحب الانتقام وشهوة النفس على أمر الله - تعالى - ، ومن فضل شهوة نفسه الخسيسة الضارة على نظر الله وعلى كتابه ودينه ومصلحة المؤمنين بغير شبهة ما فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة .
ويدل على هذا قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ( 3 : 135 ) ، وتأمل قوله : يعلمون ، ولو سمح الله أن يفضل أحد شهوته أو حميته وغضبه على الله ورسوله وكتابه ودينه والمؤمنين ، ووعده بالمغفرة لتجرأ الناس على كل شيء ، ولم يكن للدين ولا للشرع حرمة في قلوبهم ، فهذا تقرير قول من قالوا : إن القاتل لا تقبل توبته ولا بد من عقابه ، والروايات فيه عن الصحابة والسلف كثيرة تراجع في تفسير
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير .
هذا ما عندنا عن الأستاذ الإمام في هذه الرواية ، وهو من خير ما يبين به وجه ما ذهب إليه المشددون في هذه الجناية ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف :
" هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم ، وخطب غليظ ، ومن ثم روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما روي من أن
nindex.php?page=treesubj&link=32481توبة قاتل المؤمن عمدا غير مقبولة ، وعن
سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على سنة الله
[ ص: 278 ] في التغليظ والتشديد ، وإلا فكل ذنب ممحو بالتوبة وناهيك بمحو الشرك دليلا ، وفي الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=919206لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم ، وفيه :
لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه ، وفيه
إن هذا الإنسان بنيان الله ، ملعون من هدم بنيانه ، وفيه
nindex.php?page=hadith&LINKID=919209من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله .
والعجب من قوم يقرءون هذه الآية ويرون ما فيها ، ويسمعون هذه الأحاديث وقول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بمنع التوبة ، ثم لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة واتباعهم هواهم وما يخيل إليهم مناهم ، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( 47 : 24 ) ، اهـ .
أقول : وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار وأوله بعضهم بطول المكث فيها ، وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار فيقال : إن المراد به طول المكث أيضا ، وقال بعضهم : إن هذا جزاءه الذي يستحقه إن جازاه الله - تعالى - ، وقد يعفو عنه فلا يجازيه ، رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
أبي مجلز ، وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد ، وأن العفو والتجاوز قد يقع في بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله - تعالى - ، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القائلين في النار ، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين ; لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين ، وقال بعضهم : إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال ، والمعنى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله ، مستحلا له فجزاؤه جهنم خالدا فيها إلخ ، وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ، ولو أراده الله - تعالى - لذكره كما ذكر قيد العمد ، وأن الاستحلال كفر فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل ، والسياق يأبى هذا ، وقال بعضهم : إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به وهذا أضعف التأويلات ، لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط ، بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم " من الشرطية " جاء بفعل الاستقبال فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93ومن يقتل ولم يقل : " ومن قتل " ، وقال آخرون : إن هذا الجزاء حتم إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه ، وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار ، ولعل أظهر هذه التأويلات قول من قال : إن المراد بالخلود طول المكث ; لأن أهل اللغة استعملوا لفظ الخلود وهم لا يعتقدون أن شيئا يدوم دواما لا نهاية له ، وكون حياة الآخرة لا نهاية لها لم يؤخذ من هذا اللفظ وحده بل من نصوص أخرى .
إن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - كان يقول : إن قاتل المؤمن عمدا لا توبة له ، كما ذكرنا ذلك في عبارة شيخنا وعبارة الكشاف ، ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير القول بقبول توبته عن
[ ص: 279 ] مجاهد وهو تلميذ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وذكر روايات كثيرة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في عدم قبول توبته ، منها رواية
nindex.php?page=showalam&ids=15957سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بعدما كف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ، فقال : أفرأيت فإن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة ؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919210ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا جاء يوم القيامة آخذا بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه دما من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بيده الأخرى يقول : سل هذا فيم قتلني ؟ " والذي نفس
عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسخها من آية أخرى حتى قبض نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وما نزل بعدها من برهان ، وفي رواية أخرى : فما جاء نبي بعد نبيكم ولا نزل كتب بعد كتابكم .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير أن
nindex.php?page=showalam&ids=396عبد الرحمن بن أبزى أمره أن يسأل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عن هاتين الآيتين اللتين في النساء
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93ومن يقتل مؤمنا متعمدا إلى آخر الآية ، والتي في الفرقان
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=68ومن يفعل ذلك يلق أثاما ، إلى
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=69ويخلد فيه مهانا ( 25 : 68 ، 69 ) ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره ثم قتل مؤمنا متعمدا فلا توبة له ، وأما التي في الفرقان فإنها لما نزلت قال المشركون من
أهل مكة : فقد عدلنا بالله ، أي : أشركنا - وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق فما ينفعنا الإسلام ؟ قال : فنزلت :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إلا من تاب ، وفي رواية أخرى قال : إنها نزلت في أهل الشرك ، وروي عنه أنه قال : إن آية النساء نزلت بعد آية الفرقان بسنة ، وفي رواية أخرى بثماني سنين وهذه أقرب ، فإن سورة الفرقان مكية حتما ، وسورة النساء مدنية نزل أكثرها بعد غزوة أحد كما تقدم ، وأما الرواية التي ذكرها الأستاذ الإمام ، وهي أنها نزلت بعدها بستة أشهر فقد رواها
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أن الآية محكمة وما تزداد إلا شدة ، وعن
الضحاك أنه ما نسخها شيء وأنه ليس له توبة .
وقد بين الأستاذ الإمام
nindex.php?page=treesubj&link=32478_32482_32481الفرق بين قبول توبة المشرك من الشرك وما يتبعه من الجرائم ، وعدم قبول توبة المؤمن من القتل على قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهو فرق واضح معقول من وجه وغير معقول من وجه آخر ، وهو أنه لا ينطبق على قاعدتنا في حكمة الله في الجزاء على الشرك والذنوب ، وعلى الإيمان والأعمال الصالحة ، وقد بيناها مرارا كثيرة ، وهي أن الجزاء تابع لتأثير الاعتقاد ، والعمل في تزكية النفس أو تدسيتها .
نعم ، إن إقدام المرء بعد الإيمان ومعرفة ما عظم الله - تعالى - من تحريم الدماء ، وما شدد من الجزاء على جريمة القتل ، يكاد يكون ردة عن الإسلام ، وهو أولى بما ورد في الصحيح
[ ص: 280 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن إلخ ، وقد تقدم في بحث التوبة من تفسير هذه السورة - فإن القتل أكبر إثما وأشد جرما من الزنا والسرقة وشرب الخمر التي ورد بها الحديث ، ولكن لا نسلم ما قاله شيخنا من أنه ليس لفاعله شبهة عذر بعد الإسلام ، وإذا سلمنا ذلك وحكمنا بأن نفس القاتل قد صارت بالقتل شر النفوس وأشدها رجسا ، وأبعدها عن موجبات الرحمة ، وهو معنى ما في الآية من اللعنة ، فلا نستطيع أن نحكم بأن صلاحها بالتوبة النصوح والمواظبة على الأعمال الصالحة متعذر ولا متعسر .
أما شبهة العذر أو شبهه فقد يظهر فيمن كان شديد الغضب حديد المزاج ، إذا رأى من خصمه ما يثير غضبه وينسيه ربه ، فقد يندفع إلى القتل لا يملك فيه نفسه ، إلا أن يقال إن هذا القتل لا يعد من العمد أو التعمد الذي هو أبلغ من العمد لما في صيغة التفعل من الدلالة على معنى التربص أو التروي في الشيء ، وقد ذكروا أن
nindex.php?page=treesubj&link=9306_9305الضرب بما لا يقتل في الغالب إذا أفضى إلى القتل لا يسمى عمدا بل شبه عمد كالضرب بالعصا ، وإنما
nindex.php?page=treesubj&link=9287_9288العمد ما كان بمحدد وما في معناه مما جرت العادة بكونه بقتل كبندق الرصاص المستعمل في هذا الزمان بآلاته الجديدة كالبندقية والمسدس ، واشترطوا فيه أن يقصد به القتل فإنه قد يطلق الرصاص عليه بقصد الإرهاب وهو ينوي ألا يصيبه فيصيبه بدون قصد ، ولفظ التعمد يدل على هذا وعلى أكثر منه كما قلنا آنفا .
وأما كون القاتل قد تصلح نفسه وتتزكى بالتوبة النصوح فهو معقول في نفسه وواقع ويدخل في عموم ما ورد في التوبة ، ولا نعرف نفسا غير قابلة للصلاح ، إلا نفس من أحاطت به خطيئته وران على قلبه ما كان يكسب من الأوزار ، بطول الممارسة والتكرار ، إذ يألف بذلك الشر ويأنس به حتى لا تتوجه نفسه إلى حقيقة التوبة بكراهة ما كان عليه ومقته والرجوع عنه ، لا أنه يتوب ولا يقبل الله توبته .
nindex.php?page=treesubj&link=32481فمن وقعت منه جريمة القتل فأدرك عقبها أنه تعرض بذلك للخلود في النار ، واستحق لعنة الله - تعالى - والطرد من رحمته وباء بغضبه ، وتهوك في عذابه العظيم ، فعظم عليه ذنبه ، وضاقت عليه نفسه ، فندم أشد الندم فأناب واستغفر ، وعزم على ألا يعود إلى هذا الحنث العظيم ، ولا إلى غيره من المعاصي والأوزار ، وأقبل على المكفرات ، وواظب على الباقيات الصالحات إلى أن أدركه الممات ، وهو على هذه الحال ، فهو ولا شك في محل الرجاء ، وحاش لله أن يخلد مثله في النار .
نعم إن أمراء الجور الذين يسفكون دماء من يخالفون أهواءهم ، وزعماء السياسة الذين يجعلون من قوانين جمعياتهم اغتيال من يعارضهم في سياستهم ، وكبراء اللصوص الذين يقتلون المؤمن وغير المؤمن بغير الحق لأجل التمتع بماله ، كل أولئك الفجار ، الذين يقتلون
[ ص: 281 ] مع التعمد وسبق الإصرار ، جديرون بأن ينالوا الجزاء الذي توعدت به الآية من الخلود في النار ، ولعنة الله وغضبه وعذابه العظيم الذي لا يعرف كنهه سواه - عز وجل - ; لأنهم وإن كان فيهم من يعدون في كتب تقويم البلدان ودفاتر الإحصاء وسجلات الحكومة من المسلمين ، ليسوا في الحقيقة من المؤمنين بالله وبصدق كتابه ورسوله فيما أخبرا به من وعيده على القتل وغيره ، فهم لا يراقبون الله في عمل ، ولا يخافون عذابه على ذنب ، وقلما يوجد فيهم من يذكر التوبة بقلبه أو لسانه ، إلا ما يذكر عن بعض عوام اللصوص من حركة اللسان ببعض الألفاظ التي لا يعقلون حقيقة معناها ، ومنها : أستغفر الله وأتوب إليه ، وهو يكذب في ذلك عليه .
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - حُكْمَ
nindex.php?page=treesubj&link=33480_9290قَتْلِ الْمُؤْمِنِ تَعَمُّدًا بِمَا يُوَافِقُ مَفْهُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ مِنْ مُؤْمِنٍ ، فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَفَّارَةً بَلْ جَعَلَ عِقَابَهُ أَشَدَّ عِقَابٍ تَوَعَّدَ بِهِ الْكَافِرِينَ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وَمِنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : هَذَا فَرْعٌ عَنْ كَوْنِ الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ يُنَافِي الْإِيمَانَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ الْآيَةُ آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي عِقَابِ الْقَتْلِ ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ( 4 : 48 ) ، نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَهُ وَقَدْ قُلْنَا مِنْ قَبْلُ : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48لِمَنْ يَشَاءُ ، فِيهِ مَعَ تَغْلِيظِ أَمْرِ الشِّرْكِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى ، فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُخَصِّصَ أَحَدًا بِالْمَغْفِرَةِ فَلَا مَرَدَّ لِمَشِيئَتِهِ ، وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّهُ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ مَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمَّدًا ، فَآيَةُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ، نَزَلَتْ تَرْغِيبًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ آذَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِيمَانِ ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=38إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ( 8 : 38 ) ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَاتِلَ الْعَمْدِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَقَالُوا : إِنَّ آيَةَ الْفَرْقَانِ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ ، وَالتَّوْبَةُ فِيهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِعِدَّةِ أَعْمَالٍ مِنْهَا الْقَتْلُ وَمِنْهَا الشِّرْكُ ، أَقُولُ : وَيَعْنِي بِآيَةِ الْفَرْقَانِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( 25 : 70 ) ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمْ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ، وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ، وَتَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِيهِ .
( قَالَ ) : وَقَدْ يُقَالُ :
nindex.php?page=treesubj&link=32479_32482_32481كَيْفَ تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنَ الْمُشْرِكِ الْقَاتِلِ الزَّانِي ، وَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِ الَّذِي ارْتَكَبَ الْقَتْلَ وَحْدَهُ ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ - مِنَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ - بِأَنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي لَمْ يُؤْمِنْ بِالشَّرِيعَةِ الَّتِي تُحَرِّمُ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ بِالْكُفْرِ وَمَا يَتْبَعُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ ظَهَرَ لَهُ صِدْقُ النُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ تَابَ وَأَنَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعَفْوِ وَإِنْ كَانَ فِي إِجْرَامِهِ السَّابِقِ مُقَصِّرًا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْمُوقِنُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ وَتَحْرِيمِ اللَّهِ لِلْقَتْلِ
[ ص: 277 ] وَجَعْلِهِ قَاتِلَ النَّفْسِ الْبَرِيئَةِ كَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا فَلَا عُذْرَ لَهُ ، بَلْ لَا يَعْقِلُ أَنْ يُرَجِّحَ هَوَاهُ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَى إِيمَانِهِ مِنَ الشَّكِّ الِاضْطِرَارِيِّ مَا يَكُونُ لَهُ شِبْهُ عُذْرٍ ، أَمَّا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمَ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَلَمْ يُؤَمِنْ لَمْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ إِلَّا لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ عَلَى صِحَّةِ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ يُعَاقَبُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي النَّظَرِ وَتَصْحِيحِ الِاسْتِدْلَالِ حَتَّى يَخْلُدَ فِي النَّارِ ، وَإِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى فَآمَنَ وَاهْتَدَى يُغْفَرُ لَهُ مَا قَدْ سَلَفَ فِي زَمَنِ الْكُفْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ عَمَلًا مُرَتَّبًا عَلَى الْكُفْرِ ، وَالْكُفْرُ نَفْسُهُ كَانَ خَطَأً مِنْهُ فَأَشْبَهَ قَتَلَهُ قَتْلَ الْخَطَأِ ، وَمَثْلَهُ مَنْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِهِ لِشُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ فِيهِ ، فَمَعْصِيَتُهُ لَمْ تَكُنْ تَهَاوُنًا بِأَمْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَا اسْتِهْزَاءً بِآيَاتِهِ وَلَا دَلِيلًا عَلَى إِيثَارِهِ لِهَوَاهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ .
أَمَّا الْقَاتِلُ الْمُؤْمِنُ فَأَمْرُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ إِيمَانُ يَقِينٍ وَإِذْعَانٍ لِمَا جَاءَ بِهِ الدِّينُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الدِّمَاءِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ أَخٌ لَهُ وَنَصِيرٌ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ يَعْمَدُ بَعْدَ هَذَا إِلَى الِاسْتِهَانَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ ، وَحَلِّ مَا عَقَدَهُ ، وَتَوْهِينِ أَمْرِ دِينِهِ بِهَدْمِ أَرْكَانِ قُوَّتِهِ ، وَتَجْرِئَةِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يَهِنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَضْعُفُوا وَيَكُونَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ عِقَابَهُ يَكُونُ شَدِيدًا لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ .
وَمِنْ نَظَرَ إِلَى انْحِلَالِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بَعْدَمَا أَقْدَمَ بَعْضُهُمْ عَلَى سَفْكِ دَمِ بَعْضٍ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ هَذَا ، وَأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُعْذَرُ بِهَذِهِ الْجُرْأَةِ عَلَى هَذِهِ الْجَرِيمَةِ وَهُوَ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي أَمْرِ اللَّهِ ، إِذْ لَا رَائِحَةَ لِلْعُذْرِ فِي عَمَلِهِ بَلْ هُوَ مُرَجِّحٌ لِلْغَضَبِ وَحُبِّ الِانْتِقَامِ وَشَهْوَةِ النَّفْسِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَمِنْ فَضَّلَ شَهْوَةَ نَفْسِهِ الْخَسِيسَةَ الضَّارَّةَ عَلَى نَظَرِ اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَدِينِهِ وَمَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مَا فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَالْغَضَبِ وَاللَّعْنَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=135وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 3 : 135 ) ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ : يَعْلَمُونَ ، وَلَوْ سَمَحَ اللَّهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدٌ شَهْوَتَهُ أَوْ حَمِيَّتَهُ وَغَضَبَهُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَكِتَابِهِ وَدِينِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَوَعَدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ لَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلدِّينِ وَلَا لِلشَّرْعِ حُرْمَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالُوا : إِنَّ الْقَاتِلَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ عِقَابِهِ ، وَالرِّوَايَاتُ فِيهِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ كَثِيرَةٌ تُرَاجَعُ فِي تَفْسِيرِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنِ جَرِيرٍ .
هَذَا مَا عِنْدَنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ مِنْ خَيْرِ مَا يُبَيَّنُ بِهِ وَجْهَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَدِّدُونَ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ :
" هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْإِيعَادِ ، وَالْإِبْرَاقِ وَالْإِرْعَادِ ، أَمْرٌ عَظِيمٌ ، وَخَطْبٌ غَلِيظٌ ، وَمِنْ ثَمَّ رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=32481تَوْبَةَ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَعَنْ
سُفْيَانَ : كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ إِذَا سُئِلُوا قَالُوا : لَا تَوْبَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ مِنْهُمْ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ
[ ص: 278 ] فِي التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ ، وَإِلَّا فَكُلُّ ذَنْبٍ مَمْحُوٌّ بِالتَّوْبَةِ وَنَاهِيكَ بِمَحْوِ الشِّرْكِ دَلِيلًا ، وَفِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=919206لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، وَفِيهِ :
لَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالْمَشْرِقِ وَآخَرُ رَضِيَ بِالْمَغْرِبِ لَأُشْرِكَ فِي دَمِهِ ، وَفِيهِ
إِنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ بُنْيَانُ اللَّهِ ، مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَ بُنْيَانَهُ ، وَفِيهِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=919209مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ .
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَيَرَوْنَ مَا فِيهَا ، وَيَسْمَعُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَوْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَنْعِ التَّوْبَةِ ، ثُمَّ لَا تَدْعُهُمْ أَشْعَبِيَّتُهُمْ وَطَمَاعِيَّتُهُمُ الْفَارِغَةُ وَاتِّبَاعُهُمْ هَوَاهُمْ وَمَا يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ مُنَاهُمْ ، أَنْ يَطْمَعُوا فِي الْعَفْوِ عَنْ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ تَوْبَةٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 47 : 24 ) ، اهـ .
أَقُولُ : وَقَدِ اسْتَكْبَرَ الْجُمْهُورُ خُلُودَ الْقَاتِلِ فِي النَّارِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِطُولِ الْمُكْثِ فِيهَا ، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ التَّأْوِيلِ لِخُلُودِ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ طُولُ الْمُكْثِ أَيْضًا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ هَذَا جَزَاءَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ إِنْ جَازَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - ، وَقَدْ يَعْفُو عَنْهُ فَلَا يُجَازِيهِ ، رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ
أَبِي مِجْلَزٍ ، وَفِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ جَزَاءٍ أَنْ يَقَعَ لِاسْتِحَالَةِ كَذِبِ الْوَعِيدِ كَالْوَعْدِ ، وَأَنَّ الْعَفْوَ وَالتَّجَاوُزَ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لِأَسْبَابٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ - تَعَالَى - ، فَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ تَفَصٍّ مِنْ خُلُودِ بَعْضِ الْقَائِلِينَ فِي النَّارِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ الْأَكْثَرِينَ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِلْأَقَلِّينَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الِاسْتِحْلَالِ ، وَالْمَعْنَى : وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ، مُسْتَحِلًّا لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا إِلَخْ ، وَفِيهِ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا هَذَا الْقَيْدُ ، وَلَوْ أَرَادَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الْعَمْدِ ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَالَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ مُتَعَلِّقًا بِهِ لَا بِالْقَتْلِ ، وَالسِّيَاقُ يَأْبَى هَذَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ هَذَا نَزَلَ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ خَاصٌّ بِهِ وَهَذَا أَضْعَفُ التَّأْوِيلَاتِ ، لَا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ دُونَ خُصُوصِ السَّبَبِ فَقَطْ ، بَلْ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ عَلَى مَجِيئِهِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ " مِنَ الشَّرْطَيَّةِ " جَاءَ بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وَمَنْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَقُلْ : " وَمَنْ قَتَلَ " ، وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ هَذَا الْجَزَاءَ حَتْمٌ إِلَّا مَنْ تَابَ وَعَمِلَ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَفْوَ عَنْ هَذَا الْجَزَاءِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ ، وَفِيهِ أَنَّهُ اعْتِرَافٌ بِخُلُودِ غَيْرِ التَّائِبِ الْمَقْبُولِ التَّوْبَةِ فِي النَّارِ ، وَلَعَلَّ أَظْهَرَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْمُكْثِ ; لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اسْتَعْمَلُوا لَفْظَ الْخُلُودِ وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ دَوَامًا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَكَوْنُ حَيَاةِ الْآخِرَةِ لَا نِهَايَةَ لَهَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَحْدَهُ بَلْ مِنْ نُصُوصٍ أُخْرَى .
إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كَانَ يَقُولُ : إِنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَا تَوْبَةَ لَهُ ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ شَيْخِنَا وَعِبَارَةِ الْكَشَّافِ ، وَنَقَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَ بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ عَنْ
[ ص: 279 ] مُجَاهِدٍ وَهُوَ تِلْمِيذُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَذَكَرَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَتِهِ ، مِنْهَا رِوَايَةُ
nindex.php?page=showalam&ids=15957سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ : يَا
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مَا تَرَى فِي رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ؟ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، فَقَالَ : أَفَرَأَيْتَ فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ؟ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " يَقُولُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919210ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قِبَلِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى يَقُولُ : سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ " وَالَّذِي نَفْسُ
عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَمَا نَسَخَهَا مِنْ آيَةٍ أُخْرَى حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : فَمَا جَاءَ نَبِيٌّ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ وَلَا نَزَلْ كُتُبٌ بَعْدَ كِتَابِكُمْ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=396عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى أَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي النِّسَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=93وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ ، وَالَّتِي فِي الْفُرْقَانِ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=68وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ، إِلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=69وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ( 25 : 68 ، 69 ) ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَعَلِمَ شَرَائِعَهُ وَأَمْرَهُ ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَلَا تَوْبَةَ لَهُ ، وَأَمَّا الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ : فَقَدْ عَدَلْنَا بِاللَّهِ ، أَيْ : أَشْرَكْنَا - وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَمَا يَنْفَعُنَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : فَنَزَلَتْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70إِلَّا مَنْ تَابَ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ : إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الْفَرْقَانِ بِسَنَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِثَمَانِي سِنِينَ وَهَذِهِ أَقْرَبُ ، فَإِنَّ سُورَةَ الْفُرْقَانِ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا ، وَسُورَةَ النِّسَاءِ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَ أَكْثَرُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ، وَهِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ رَوَاهَا
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=47زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَمَا تَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً ، وَعَنِ
الضَّحَّاكِ أَنَّهُ مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ
nindex.php?page=treesubj&link=32478_32482_32481الْفَرْقَ بَيْنَ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُشْرِكِ مِنَ الشِّرْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ ، وَعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْقَتْلِ عَلَى قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ فَرْقٌ وَاضِحٌ مَعْقُولٌ مَنْ وَجْهٍ وَغَيْرُ مَعْقُولٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَنْطَبِقُ عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي حِكْمَةِ اللَّهِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ ، وَعَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا مِرَارًا كَثِيرَةً ، وَهِيَ أَنَّ الْجَزَاءَ تَابِعٌ لِتَأْثِيرِ الِاعْتِقَادِ ، وَالْعَمَلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَوْ تَدْسِيَتِهَا .
نَعَمْ ، إِنَّ إِقْدَامَ الْمَرْءِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَعْرِفَةَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ ، وَمَا شَدَّدَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْقَتْلِ ، يَكَادُ يَكُونُ رِدَّةً عَنِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ
[ ص: 280 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=918605لَا يَزِنِّي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - فَإِنَّ الْقَتْلَ أَكْبَرُ إِثْمًا وَأَشَدُّ جُرْمًا مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِفَاعِلِهِ شُبْهَةُ عُذْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ قَدْ صَارَتْ بِالْقَتْلِ شَرَّ النُّفُوسِ وَأَشَدَّهَا رِجْسًا ، وَأَبْعَدَهَا عَنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ مِنَ اللَّعْنَةِ ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ صَلَاحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَا مُتَعَسِّرٌ .
أَمَّا شُبْهَةُ الْعُذْرِ أَوْ شَبَهُهُ فَقَدْ يَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ حَدِيدَ الْمِزَاجِ ، إِذَا رَأَى مِنْ خَصْمِهِ مَا يُثِيرُ غَضَبَهُ وَيُنْسِيهِ رَبَّهُ ، فَقَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَمْلِكُ فِيهِ نَفْسَهُ ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَمْدِ أَوِ التَّعَمُّدِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَمْدِ لِمَا فِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّرَبُّصِ أَوِ التَّرَوِّي فِي الشَّيْءِ ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=9306_9305الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ لَا يُسَمَّى عَمْدًا بَلْ شِبْهَ عَمْدٍ كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا ، وَإِنَّمَا
nindex.php?page=treesubj&link=9287_9288الْعَمْدُ مَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ بِقَتْلٍ كَبُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِآلَاتِهِ الْجَدِيدَةِ كَالْبُنْدُقِيَّةِ وَالْمُسَدَّسِ ، وَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ الرَّصَاصَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُصِيبَهُ فَيُصِيبُهُ بِدُونَ قَصْدٍ ، وَلَفْظُ التَّعَمُّدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا آنِفًا .
وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَصْلُحُ نَفْسُهُ وَتَتَزَكَّى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ فِي التَّوْبَةِ ، وَلَا نَعْرِفُ نَفْسًا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصَّلَاحِ ، إِلَّا نَفْسَ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَرَانَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَكْسِبُ مِنَ الْأَوْزَارِ ، بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّكْرَارِ ، إِذْ يَأْلَفُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَيَأْنَسُ بِهِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ نَفْسُهُ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ بِكَرَاهَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَقْتِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ ، لَا أَنَّهُ يَتُوبُ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَتَهُ .
nindex.php?page=treesubj&link=32481فَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ فَأَدْرَكَ عَقِبَهَا أَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبَاءَ بِغَضَبِهِ ، وَتَهَوَّكَ فِي عَذَابِهِ الْعَظِيمِ ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ ذَنْبُهُ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، فَنَدِمَ أَشُدَّ النَّدَمِ فَأَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ ، وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ ، وَوَاظَبَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَمَاتُ ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ، فَهُوَ وَلَا شَكَّ فِي مَحَلِّ الرَّجَاءِ ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يُخَلِّدَ مِثْلَهُ فِي النَّارِ .
نَعَمْ إِنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ مَنْ يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ ، وَزُعَمَاءَ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مِنْ قَوَانِينِ جَمْعِيَّاتِهِمُ اغْتِيَالَ مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي سِيَاسَتِهِمْ ، وَكُبَرَاءَ اللُّصُوصِ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِمَالِهِ ، كُلَّ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ ، الَّذِينَ يَقْتُلُونَ
[ ص: 281 ] مَعَ التَّعَمُّدِ وَسَبْقِ الْإِصْرَارِ ، جَدِيرُونَ بِأَنْ يَنَالُوا الْجَزَاءَ الَّذِي تَوَعَّدَتْ بِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ ، وَلَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ سِوَاهُ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعَدُّونَ فِي كُتُبِ تَقْوِيمِ الْبُلْدَانِ وَدَفَاتِرِ الْإِحْصَاءِ وَسِجِلَّاتِ الْحُكُومَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، لَيْسُوا فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَبِصِدْقِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ مِنْ وَعِيدِهِ عَلَى الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ ، فَهُمْ لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ فِي عَمَلٍ ، وَلَا يَخَافُونَ عَذَابَهُ عَلَى ذَنْبٍ ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَذْكُرُ التَّوْبَةَ بِقَلْبِهِ أَوْ لِسَانِهِ ، إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ عَوَامَّ اللُّصُوصِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا ، وَمِنْهَا : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ يَكْذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ .