تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا .
روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن قال : ابن عباس بني سليم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ، الآية . مر رجل من
وأخرج البزار من وجه آخر عن قال : ابن عباس المقداد فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال : أشهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ وأنزل الله هذه الآية . بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فيها
وأخرج أحمد وغيرهما عن والطبراني عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : أبو قتادة ومحلم بن جثامة فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا ، فحمل عليه محلم فقتله ، فلما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله الآية ، وأخرج بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من المسلمين فيهم من حديث ابن جرير نحوه ، وروى ابن عمر الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن أن اسم [ ص: 282 ] المقتول ابن عباس مرداس بن نهيك من أهل فدك ، واسم القاتل ، وأن اسم أمير السرية أسامة بن زيد غالب بن فضالة الليثي ، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه بجبل فلما لحقوه قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله ، فلما رجعوا نزلت الآية ، وأخرج أسامة بن زيد من طريق ابن جرير وعبد كذا - وهو السدي عبد الرزاق - من طريق قتادة نحوه .
وأخرج من طريق ابن أبي حاتم عن ابن لهيعة أبي الزبير عن جابر قال : أنزلت هذه الآية في مرداس وهو شاهد حسن ، وأخرج ابن منده عن جزء ابن الحدرجان قال : وفد أخي قداد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلقيته سرية النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم : أنا مؤمن ، فلم يقبلوا منه وقتلوه فبلغني ذلك فخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت . . . فأعطاني النبي - صلى الله عليه وسلم - دية أخي ، انتهى من لباب النقول .
وحديث جزء إسناده مجهول كما قال الحافظ في الإصابة ، ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية ; لأن مثل هذا من شأنه أن يقع في مثل تلك الحال ، وقد أورد الروايات بزيادة تفصيل ، والآية متصلة بما قبلها ، والظاهر أنها نزلت معها بعد وقوع تلك الحوادث ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها على أصحاب كل وقعة فيرون أنها سبب نزولها . ابن جرير
الأستاذ الإمام : بين الله - تعالى - في الآية السابقة بعض ، ومنه نهي المؤمنين أن يتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا ، ومنها أن الذين يلقون إلى المؤمنين السلم ويعتزلون قتالهم لا يجوز لهم أن يقاتلوهم ، فنهى عن قتل من لم يقاتل ، ثم ذكر أنه ليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمنا إلا على سبيل الخطأ ، وبعد هذا أراد تعالى أن ينبه المؤمنين على ضرب من ضروب قتل الخطأ كان يحصل في ذلك العهد عند السفر إلى أرض المشركين ، وذلك أن الإسلام كان قد انتشر ولم يبق مكان في بلاد العرب وقبائلهم يخلو من المسلمين أو ممن يميلون إلى الإسلام ويتربصون الفرص للاتصال بأهله للدخول فيهم ، فأعلم الله المؤمنين بذلك ، وأمرهم ألا يحسبوا كل من يجدونه في دار الكفر كافرا ، وأن يتبينوا فيمن تظهر منهم علامات الإسلام كالشهادة أو السلام الذي هو تحية المؤمنين وعلامة الأمن والاستئمان ، وألا يحملوا مثل هذا على المخادعة إذ ربما يكون الإيمان قد طاف على هذه القلوب وألم بها إن لم يكن تمكن فيها ، وقد أفادت الآية أن ما سبق من أحكام المنافقين ، وأن الله - تعالى - أراد بإنزالها أن يعد ما يقع منه بعد نزولها من قتل العمد ; لأنه أمر فيها بالتثبت ونهى عن إنكار إسلام من يدعي الإسلام ولو بإلقاء تحيته فكيف بمن ينطق بالشهادتين ، ثم ذكر ما من شأنه أن يقوي الشبهة في نفس من يظن أن إظهار الإسلام لأجل التقية وهو ابتغاء عرض الحياة الدنيا فهدى [ ص: 283 ] المؤمن بهذا إلى أن يتهم نفسه ويفتش عن قلبه ولا يبني الظن على ميله وهواه ، بل أوجب عليه أن يبني على الظاهر ويقبله حتى يتبين له خلافه اهـ . قتل من ألقى السلام لشبهة التقية قد مضى على أنه من قتل الخطأ
أقول : ويزاد على هذا أن إلقاء السلام قد يكون إلقاء للسلم وإيذانا بعدم الحرب ، وقرئ في المتواتر " السلم " كما يأتي قريبا ، وقد علم من الآيات السابقة في هذا السياق نفسه النهي عن ، فليس الإسلام وحده هو المانع من القتل ; إذ ليس الكفر وحده هو الموجب له ، وإنما كان الكفار هم الذين بدءوا المسلمين بالحرب ، قتل الذين يعتزلون القتال ويكفون أيديهم عنه ويلقون السلم إلى المؤمنين ، حتى في الغزوات التي صورتها صورة المهاجمة وما هي إلا مهاجمة قوم حرب يدعون إلى السلم فلا يجيبون ، وما رضوا بالسلم مرة وأباها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في صلح وما كان القتال في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا دفاعا الحديبية التي ثقلت فيها شروط المشركين على المؤمنين ، وكيف يأباها والله - تعالى - يقول له : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ( 8 : 61 ) ، وقد أشار شيخ المفسرين إلى هذا فاشترط فيمن يباح قتله أن يكون حربا للمسلمين ، وإننا نذكر عبارته في ذلك وعليها نعتمد في جل تفسير الآية قال : يعني جل ثناؤه بقوله : ابن جرير الطبري يا أيها الذين آمنوا يا أيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم ، إذا ضربتم في سبيل الله ، إذا سرتم مسيرا لله في جهاد أعدائكم فتبينوا ، يقول : فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره ، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره ، ولا تقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام ، يقول : ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا ، فتقتلوه ابتغاء عرض الحياة الدنيا ، أي : طلبا لمتاعها الذي هو عرض زائل ، وما أذن الله لكم في قتال الذين يقاتلونكم لتكونوا مثلهم في أطماعهم الدنيوية ، بل للدفاع عن الحق وإعلاء كلمته ونشر هدايته فعند الله مغانم كثيرة ، من رزقه وفواضل نعمه ، هذا ما قاله ذكرناه بلفظه إلا تفسير قوله - تعالى - : ابن جرير لست مؤمنا إلخ ، فقد ذكرناها بالمعنى مع زيادة ما والتبين طلب بيان الأمر ، وقرأ حمزة " فتثبتوا " في الموضعين من التثبت في الأمر وهو التأني واجتناب العجلة ، وقرأ والكسائي نافع وابن عامر وحمزة " السلم " بغير ألف ، وهو كالسلم بكسر السين ضد الحرب ، وبه فسر بعضهم قراءة الباقين " السلام " بالسلم وهو معناه الأصلي والضرب في الأرض ضربها بالأرجل في السفر .