[ ص: 252 ] النوع التاسع والثلاثون
معرفة وجوب تواتره
لا خلاف أن كل ما هو من وأما في محله ووضعه وترتيبه ، فعند المحققين من علماء أهل السنة كذلك ، أي يجب أن يكون متواترا ، فإن العلم اليقيني حاصل أن العادة قاضية بأن مثل هذا الكتاب العزيز ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه الهادي للخلق إلى الحق ، المعجز الباقي على صفحات الدهر ، الذي هو أصل الدين القويم ، والصراط المستقيم ، فمستحيل ألا يكون متواترا في ذلك كله . القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ،
إذ الدواعي تتوافر على نقله على وجه التواتر ، وكيف لا وقد قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر : 9 ) والحفظ إنما يتحقق بالتواتر ، وقال تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( المائدة : 67 ) ، والبلاغ العام إنما هو بالتواتر فما لم يتواتر مما نقل آحادا نقطع بأنه ليس من القرآن .
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه ، بل يكثر فيها نقل الآحاد ، وهو الذي يقتضيه صنع التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله ، في إثبات البسملة من كل سورة . الشافعي
[ ص: 253 ] ورد بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ، ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر ; وثبوت كثير مما ليس بقرآن . أما الأول فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات الواقعة في القرآن ، مثل : فبأي آلاء ربكما تكذبان ( الرحمن : 13 ) ، و ويل يومئذ للمكذبين ( المرسلات : 15 ) .
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد .
وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة ، وكره ذلك أهل الحق ، وامتنعوا منه . وقال قوم من المتكلمين : إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة ، وأوجه وأحرف ، إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية ، وإن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها ، بخلاف موجب رأي القياسيين ، واجتهاد المجتهدين . وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه ، وخطئوا من قال بذلك ، وصار إليه .
قال القاضي : وقد رد الله عنه طعن الطاعنين ، واختلاف الضالين ، وليس المعتبر في العلم بصحة النقل والقطع على فنونه بألا يخالف فيه مخالف ; وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم بهم ثبت التواتر ، وتقوم الحجة ، سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه ; ولهذا لا يبطل النقل إذا ظهر واستفاض ، واتفق عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن من قبل .
وبذلك يسقط اعتراض الملحدين في القرآن ; وذلك دليل على صحة ونقض مطاعن الرافضة فيه من دعوى الزيادة والنقص ، كيف وقد قال تعالى نقل القرآن وحفظه وصيانته من التغيير ، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر : 9 ) وقوله : إن علينا جمعه وقرآنه ( القيامة : 17 ) وأجمعت الأمة أن المراد بذلك حفظه على المكلفين للعمل به وحراسته من وجوه الغلط والتخليط ، وذلك وجب القطع على صحة نقل مصحف الجماعة وسلامته .