[ ص: 83 ] وهل يدخل من رآه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة الشريفة ; كزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ) ؟ الظاهر : لا . وبه جزم شيخنا في ( مقدمة الإصابة ) ، وزاد في التعريف الماضي : به ; ليخرجه ; فإنه ممن لقيه مؤمنا بغيره . على أن لقائل ادعاء الاستغناء عن التقييد به بإطلاق وصف النبوة ; إذ المطلق يحمل على الكامل . هذا مع أن شيخنا قد ترجم له في إصابته تبعا إنه يبعث أمة وحده للبغوي وابن منده وغيرهما ، وترجم ابن الأثير للقاسم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل وللطاهر وعبد الله أخويه في القسم الثاني من الإصابة .
ومقتضاه أن تكون لهم رؤية ، لكنه ذكر أخاهم الطيب في الثالث منها . وفيه نظر ، خصوصا وقد جزم بأن هشام بن الكلبي عبد الله والطاهر والطيب واحد ، اسمه عبد الله ، والطاهر والطيب لقبان .
ثم هل يشترط في كونه مؤمنا به أن تقع رؤيته له بعد البعثة فيؤمن به حين يراه ، أو بعد ذلك ؟ أو يكفي كونه مؤمنا به أنه سيبعث كما في بحيرا الراهب وغيره ممن مات قبل أن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ؟ .
قال شيخنا : إنه محل احتمال . وذكر بحيرا في القسم الرابع من الإصابة ; لكونه كان قبل البعثة ، وأما ورقة فذكره في القسم الأول ; لكونه كان بعدها قبل الدعوة ، مع أنه أيضا لم يجزم بصحبته ، بل قال : وفي إثباتها له نظر . على أن شرح النخبة ظاهره اختصاص التوقف بمن لم يدرك البعثة ; فإنه قال : وقوله : ( به ) ، هل يخرج من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة ؟ فيه نظر . وخرج بقوله : مسلما ، من رآه بعدها لكن حال كونه كافرا ، سواء أسلم بعد ذلك في حياته أم بعدها إذا لم يره بعد ، وعدوا من جملة المخضرمين ، ومراسيلهم يطرقها احتمال أن تكون مسموعة لهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رؤيتهم له . على أن أحمد خرج في مسنده حديث رسول قيصر ، مع كونه إنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال كفره .
وكذا ترجم ابن فتحون في ذيله لعبد الله بن صياد إن لم يكن هو الدجال ، وقال : إن وغيره ترجم له هكذا ، وهو إنما أسلم بعده - صلى الله عليه وسلم - . نعم ، قال شيخنا : ينبغي أن يعد من كان مؤمنا به زمن الإسراء ، إن ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كشف له في ليلته عن جميع من [ ص: 84 ] في الأرض فرآه ، في الصحابة ، وإن لم يلقه ; لحصول الرؤية من جانبه - صلى الله عليه وسلم - . الطبري
ويرد على التعريف من رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام ; فإنه ليس بصحابي اتفاقا ; كعبد الله بن جحش ومقيس بن صبابة وابن خطل ، وحينئذ فيزاد فيه : ومات على ذلك . على أن بعضهم انتزع من قول الأشعري أن من مات مرتدا ، تبين أنه لم يزل كافرا ; لأن الاعتبار بالخاتمة ، صحة إخراجه ; فإنه يصح أن يقال : لم يره مؤمنا . لكن في هذا الانتزاع نظر ، وإن تضمن مخالفة شيخنا المحلي المؤلف في التقييد بموته مؤمنا موافقة الانتزاع ; لأنه حين رؤياه كان مؤمنا في الظاهر ، وعليه مدار الحكم الشرعي فيسمى صحابيا ، وحينئذ فلا بد من القيد المذكور . وما وقع لأحمد في مسنده من ذكره حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي ، وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ، وحدث عنه بعد موته ، ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه ، يمكن توجيهه بعدم الوقوف على قصة ارتداده . وقد قال شيخنا ما نصه : وإخراج حديث مثل هذا - يعني مطلقا - في المسانيد وغيرها مشكل ، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده ، فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عوده . فالصحيح أنه معدود في الصحابة ; لإطباق المحدثين على عد ونحوه ; الأشعث بن قيس كقرة بن هبيرة ، ممن وقع له ذلك فيهم ، وإخراج أحاديثهم في المسانيد وغيرها ، وزوج أخته أبو بكر الصديق للأشعث . وقيل : لا ; إذ الظاهر أن ذلك يقطع الصحبة وفضلها ، فالردة تحبط العمل عند عامة العلماء ; كأبي حنيفة . بل نص عليه في ( الأم ) ، وإن حكى الشافعي الرافعي عنه تقييده باتصالها بالموت . وقيد بعضهم كونه حين الرؤية بالغا [ ص: 85 ] عاقلا ، حكاه عن أهل العلم فقال : رأيت أهل العلم يقولون : كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار . الواقدي
والتقييد بالبلوغ - كما قال المؤلف - شاذ ، وهو يخرج نحو الذي عقل من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة ، وهو ابن خمس سنين ، مع عدهم إياه في الصحابة . ولم يتعقب تقييده بالعقل ، وهو كذلك في المجنون المطبق ، سواء البالغ السابق إسلامه دون رؤيته ، أو الصغير المحكوم بإسلامه تبعا لأبويه ; ولذا زدته ، وكان عدم التصريح به لفقده . نعم ، المتقطع لا مانع من اتصافه بها إذا رآه في حال إفاقته ; لإجراء الأحكام عليه حينئذ ، ووصفه بالعدالة إذا لم يؤثر الخلل في إفاقته ، وبعضهم كونه مميزا كما تقدم . محمود بن الربيع
( وقيل ) : إنه لا يكفي في كونه صحابيا مجرد الرؤية ، بل لا يكون صحابيا إلا ( إن طالت ) صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكثرت مجالسته معه على طريق التبع له والأخذ عنه . وبه جزم ابن الصباغ في ( العدة ) فقال : الصحابي هو الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقام معه واتبعه دون من وفد عليه خاصة ، وانصرف من غير مصاحبة ولا متابعة . وقال أبو الحسين في ( المعتمد ) : هو من طالت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه ، أما من طالت بدون قصد الاتباع أو لم تطل كالوافدين فلا . وقال الكيا الطبري : هو من ظهرت صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمه المتصلين به .
قال صاحب ( الواضح ) : وهذا قول شيوخ المعتزلة . وقال : هو من أكثر مجالسته واختص به ; ولذلك لم يعد الوافدون من الصحابة ، في آخرين من الأصوليين ، بل حكاه ابن فورك عنهم ، وادعى أن اسم الصحابي يقع على ذلك من حيث اللغة . والظاهر أن المحدثين توسعوا في إطلاق اسم الصحبة على من رآه رؤية ; لشرف منزلته - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أعطوا لكل من رآه حكم الصحبة ; ولهذا يوصف من أطال مجالسة أهل العلم بأنه من أصحابه ، أي : المجالس . أبو المظفر السمعاني
وما [ ص: 86 ] حكاه عن الأصوليين إنما هو طريقة لبعضهم ، وجمهورهم على الأول . وكذا دعواه ذلك لغة يرده حكاية القاضي عنهم بدون اختلاف ، لكنه قال : ومع هذا - يعني إيجاب حكم اللغة - إجراء الصحبة على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة ، فقد تقرر للأئمة عرف في أنهم لا يستعملونه إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه ، ولا يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة ، ومشى معه خطا ، وسمع منه حديثا ، فوجب لذلك أن لا يجري في عرف الاستعمال إلا على من هذا حاله . انتهى . أبي بكر الباقلاني
وصنيع أبي زرعة الرازي وأبي داود يشعر بالمشي على هذا المذهب ; فإنهما قالا في : له رؤية وليست له صحبة . وكذا قال طارق بن شهاب في عاصم الأحول . بل قال عبد الله بن سرجس موسى السيلاني فيما رواه ابن سعد في ( الطبقات ) بسند جيد : قلت : أأنت آخر من بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال بناء على ما في ظنه : ( قد بقي قوم من الأعراب ، فأما أصحابه فأنا آخرهم ) . لأنس
لكن قد يجاب بأنه أراد إثبات صحبة خاصة ليست لتلك الأعراب ، وهو المطابق للمسألة . وكذا إنما نفى أبو زرعة ومن أشير إليهم صحبة خاصة دون العامة ، وما تمسكوا به لهذا المذهب من خطابه - صلى الله عليه وسلم - في حق لخالد بن الوليد أو غيره بقوله : ( عبد الرحمن بن عوف ) ، مردود بأن نهي الصحابي عن سب آخر لا يستلزم أن لا يكون المنهي عن السب غير صحابي ، فالمعنى : لا يسب غير أصحابي أصحابي ، ولا يسب بعضهم بعضا . لا تسبوا أصحابي
( و ) على كل حال ، فهذا القول ( لم يثبت ) [ ص: 87 ] بضم الياء المثناة من تحت ، وتشديد الباء الموحدة المفتوحة ; أي : ليس هو الثبت ; إذ العمل عند المحدثين والأصوليين على الأول . ثم إن القائلين بالثاني لم يضبط أحد منهم الطول بقدر معين ; كما صرح به وغيره ، لكن حكى شارح الغزالي البزدوي عن بعضهم تحديده بستة أشهر .