الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 108 ]

798 - والعد لا يحصرهم فقد ظهر سبعون ألفا بتبوك وحضر      799 - الحج أربعون ألفا وقبض
عن ذين مع أربع آلاف تنض      800 - وهم طباق إن يرد تعديد
قيل : اثنتا عشرة أو تزيد      801 - والأفضل الصديق ثم عمر
وبعده العثمان وهو الأكثر      802 - أو فعلي قبله خلف حكي
قلت : وقول الوقف جا عن مالك      803 - فالستة الباقون فالبدريه
فأحد فالبيعة المرضيه      804 - قال : وفضل السابقين قد ورد
فقيل : هم ، وقيل : بدري وقد      805 - قيل : بل اهل القبلتين واختلف
أيهم أسلم قبل من سلف      806 - قيل : أبو بكر ، وقيل : بل علي
ومدعي إجماعه لم يقبل      807 - وقيل : زيد ، وادعى وفاقا
بعض على خديجة اتفاقا

[ عدد الصحابة ] والثامنة : في إحصائهم . ( والعد ) على المعتمد ( لا يحصرهم ) إجمالا ، فضلا عن تفصيلهم ; لتفرقهم في البلدان والنواحي ، ( فقد ) ثبت قول كعب بن مالك في قصة تبوك بخصوصها : والمسلمون كثير ، لا يجمعهم ديوان حافظ . و ( ظهر ) يعني شهد معه - صلى الله عليه وسلم - كما روي عن أبي زرعة الرازي ( سبعون ألفا بتبوك ) المذكورة . قال : ( وحضر ) معه ( الحج ) ; يعني الذي لم يحج بعد الهجرة غيره ، وودع فيه الناس بالوصية التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفارا ، وأكد التوديع بإشهاد الله عليهم بأنهم شهدوا أنه قد بلغ ما أرسل إليهم به ; ولذلك سمي حج الوداع ، ( أربعون ألفا ) . ولكثرتهم قال جابر في حكايته صفتها : نظرت إلى مد بصري من بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك . ( وقبض ) - صلى الله عليه وسلم - ( عن ذين ) ; أي : الفريقين [ ص: 109 ] المذكورين في تبوك وحجة الوداع ، وذلك مائة ألف وعشرة آلاف ، ( مع ) زيادة ( أربع آلاف ) على ذلك ، ( تنض ) بكسر النون وتشديد الضاد المعجمة ; أي : يتيسر حصرها تشبيها بنض الدراهم ، وهو تيسرها ، ممن روى عنه وسمع منه أو رآه وسمع منه . قال أبو زرعة ذلك ردا لمن قال له : أليس يقال : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف حديث ؟ فقال : ومن ذا قال ذا ؟ قلقل الله أنيابه ، هذا قول الزنادقة ، ومن يحصي حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وذكره . فقيل له : هؤلاء أين كانوا وأين سمعوا منه ؟ قال : أهل المدينة وأهل مكة ومن بينهما من الأعراب ، ومن شهد معه حجة الوداع ، كل رآه وسمع منه بعرفة . قال ابن فتحون في ذيل ( الاستيعاب ) بعد إيراده لهذا : أجاب به أبو زرعة سؤال من سأله عن الرواة خاصة ، فكيف بغيرهم ؟ انتهى .

وكذا لم يدخل في ذلك من مات في حياته - صلى الله عليه وسلم - في الغزوات وغيرها ، على أنه قد جاء عن أبي زرعة رواية أخرى أوردها أبو موسى المديني في الذيل ، قال : توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رآه وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان من رجل أو امرأة ، وكل قد روى عنه سماعا أو رؤية ، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير . ولكنها لا تنافي الأولى ; لقوله فيها : زيادة . مع أنها أقرب لعدم التورط فيها بعهدة الحصر .

نعم ، روى الحاكم في ( الإكليل ) من حديث معاذ قال : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا ) . وبهذه العدة جزم ابن إسحاق . وأورده الواقدي بإسناد آخر موصول ، وزاد أنه كانت معه عشرة آلاف فرس ، فيمكن أن يكون ذلك في ابتداء خروجهم ، كما يشعر به قوله : خرجنا . وتكاملت العدة بعد ذلك . ووقع لشيخنا في الفتح هنا سهو ، حيث عين قول أبي زرعة في تبوك بأربعين [ ص: 110 ] ألفا ، وجمع بينه وبين قول معاذ أكثر من ثلاثين ألفا باحتمال جبر الكسر ، وجاء ضبط من كان بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح بمكة بأنهم خمسة عشر ألف عنان ، قاله الحاكم ، ومن طريقه أبو موسى في الذيل . بل عنده عن ابن عمر أنه قال : ( وافى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة بعشرة آلاف من الناس ، ووافى حنينا باثني عشر ألفا ، وقال : ( لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة ) .

ثم إنه قد جاء فيمن توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم خلاف ما تقدم ، فعن الشافعي كما في مناقبه للآبري والساجي من طريق ابن عبد الحكم عنه ، قال : ( قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ستون ألفا : ثلاثون ألفا بالمدينة ، وثلاثون ألفا في قبائل العرب وغيرها ) . وعن أحمد فيما رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن علي الطبري عنه ، قال : ( قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صلى خلفه ثلاثون ألف رجل ) . وكأنه عنى بالمدينة ; ليلتئم مع ما قبله .

وقال الغزالي في الباب الثالث في أعمال الباطن في التلاوة من ربع العبادات من ( الإحياء ) : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرين ألفا من الصحابة . قال المصنف : لعله عنى بالمدينة . وثبت عن الثوري فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه أنه قال : من قدم عليا على عثمان فقد أزرى على اثني عشر ألفا ، مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض . ووجه النووي بأن ذلك بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - باثني عشر عاما بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح الكثير ممن لم تضبط أسماؤهم ، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح وفي الطاعون العام وعمواس وغير ذلك من لا يحصى كثرة . وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب ، وأكثرهم حضروا حجة [ ص: 111 ] الوداع .

ونقل عياض في ( المدارك ) عن مالك رحمه الله أنه قال : مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف نفس . وقال أبو بكر بن أبي داود فيما رواه عن الوليد بن مسلم : بالشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال قتادة : نزل الكوفة من الصحابة ألف وخمسون ; منهم أربعة وعشرون بدريون . قال : وأخبرت أنه قدم حمص من الصحابة خمسمائة رجل . وعن بقية : نزلها من بني سليم أربعمائة .

وقال الحاكم : الرواة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة أربعة آلاف . وتعقبه الذهبي بأنهم لا يصلون إلى ألفين ، بل هم ألف وخمسمائة ، وأن كتابه ( التجريد ) لعل جميع من فيه ثمانية آلاف نفس ، إن لم يزيدوا لم ينقصوا ، مع أن الكثير فيهم من لا يعرف . انتهى .

وكذا مع كثرة التكرير وإيراد من ليس هو منهم وهما ، أو من ليس له إلا مجرد إدراك ولم يثبت له لقاء . ووجد بخطه أيضا أن جميع من في أسد الغابة سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسون نفسا . وحصر ابن فتحون عدد من بـ ( الاستيعاب ) في ثلاثة آلاف وخمسمائة ، يعني ممن ذكر فيه باسم أو كنية ، أو حصل الوهم فيه ، وذكر أنه استدرك عليه على شروطه قريبا ممن ذكر . ومن الغريب ما أسنده أبو موسى في آخر الذيل عن ابن المديني قال : الصحابة خمسمائة وثلاثة وستون رجلا .

وبالجملة ، فقد قال شيخنا : إنه لم يحصل لنا جميعا - أي : كل من صنف في الصحابة - الوقوف على العشر من أساميهم بالنسبة إلى ما مضى عن أبي [ ص: 112 ] زرعة . قلت : وفوق كل ذي علم عليم .

وقد قال أبو موسى : فإذا ثبت هذا - يعني : قول أبي زرعة - فكل حكى على قدر ما تتبعه ومبلغ علمه ، وأشار بذلك إلى وقت خاص وحال ، فإذن لا تضاد بين كلامهم ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية